أطفأ الرئيس ميشال عون آخر قنديل في قصر بعبدا، وأنزل العلم اللبناني عن السارية، منتصف ليل الثلاثين من شهر أكتوبر – تشرين الأول 2022، وخرج في موكب عائلي، إلى منزله في الرابية. معنى ذلك، أن لبنان سيكون بعد أيام، وفي مثل هذا التاريخ، قد مضى عليه عامان، بلا رئاسة للجمهورية، وبلا رئيس.
قد يقول قائل: إن الجمهورية والنظام الجمهوري، والميثاق والدستور والطائف في لبنان، قد تعرّض لمثل هذا الخرق الفاضح، حين إنتهت ولاية الرئيس ميشال سليمان، فلِمَ العجلة؟! فهذا أمر قد تكرر، فيما مضى. إنتظر لبنان عامين ونصف العام، حتى توافق اللبنانيون على مضض، على الرئيس ميشال عون، بعد تفاهمات عقدها مع خصومه السياسيين، وفي طليعتهم: الدكتور سمير جعجع رئيس حزب القوات اللبنانية، والرئيس سعد الحريري، رئيس تيار المستقبل. وأنتظر لأشهر ولاعوام، بصحبة الثورات، حتى كان يتاح له إنتخاب رئيس. فهو إذا، معتاد على الشغور الرئاسي، ولا شيء يدعو للخوف اليوم من الشغور، على الرئاسة والرئيس.
غير أننا نذكّر إذا نفعت الذكرى فنقول: إن حال لبنان في ذلك الزمان الغابر، هو غيره اليوم: كانت البحبوحة طافية في كل جوانب حياته. وكان التعاطف الدولي معه على أشدّه. وكان «الصبر على مجامر الكرام»، كما يقول المثل العربي، من مزاياه اليومية. فمن يلطمه على الخد الأول يدير له الآخر، حفاظا على الأخوة والوئام والعيش المشترك، وحفاظا على مودّة الأشقاء والأصدقاء بحيث لا يفسد له في الودّ أية قضية تثار في وجهه، في وقت من الأوقات.
كانت المملكة على تحفّظها، تستقبل الرئيس ميشال عون، وتصغي إليه وإلى أعوانه، مليّا. وكانت الدوحة مرحّبة، لإستكمال خطواتها الطبيعية بين الفرقاء اللبنانيين جميعا بلا إستثناء. وكانت السنوات الثلاث الأولى من العهد، «لبنا وعسلا» للجميع، حتى جفّ الضرع ويبس الزرع، لإمتناع دول الخليج على نهج جديد، تحفّظوا عليه، وعلى محور جديد، بدأ يذر قرنه في دول الهلال، ويهزّ النفوس، ويصيب لبنان، بما لا يطيقه، من مسؤولية الحرب والسلم، تتهدده، ويتهدد جيرانه العرب بها. مما مهّد للثورة في التاسع عشر من تشرين الأول 2018، فدخل لبنان في مخاض تجربة جديدة: بلا سند ولا مساندة، وبلا رعاية من أية جهة عربية أو دولية. وصار لبنان بلدا سائبا، ينتقل بالنار من زاوية إلى زاوية. وكان أعظمها، دخول لبنان الحرب في سوريا وفي البحرين وفي اليمن. ثم أتى إنفجار المرفأ، في الرابع من آب 2020، فدخل لبنان دائرة الأخطار كلها دفعة واحدة.
شهد لبنان على الربيع العربي الذي تهدده. وعلى «ثورة 19 ت١-2018»، وعلى الإنهيار المالي وعلى الإستيلاء على أموال المودعين. وشهد أيضا على جفاف كورونا، وعلى إفلاس الدولة، وعلى إغلاق الإدارات العامة، وعلى مغادرة الموظفين لأعمالهم. ثم تلا ذلك إغلاق القصر الجمهوري، وإنزال العلم اللبناني عن سارية الجمهورية، بحجة البحث عن «التوافقية». وقد صارت هذه الأخيرة في خبر كان.
عام واحد، فصل بين إغلاق الجمهورية قصر بعبدا، وبين طوفان الأقصى وإجتياح النقب. وحين دوى الطوفان، هلّل له اللبنانيون كافة ولو بخفر ولو بحذر. وسارع الجنوب اللبناني لإسناده في اليوم التالي، بلا تحفّظ بقوة من المقاومة، حتى تحرير مزارع شبعا وتلال كفرشوبا. ولم يلبث أن دخل لبنان الحرب بالحيلة في غزة، بين «حماس» وإسرائيل، بعد أن سبقته المقاومة إليها. وصارت حرب غزة يوما بعد يوم أكثر لبنانية، وأنها أكثر إيرانية!
كان إخلاء الجمهورية مقصودا، أم غير مقصود؟ لا يهمّ هذا الأمر كثيرا، ما دام الإندفاع إليه، صار مصحوبا بالإندفاع للإسناد في غزة، ومصاحبا لهذا الواقع الجديد. وصار الحديث يدور فقط، عن ظهر المقاومة، ومن يحميه من مرشحي الرئاسة، وليس عن ظهر لبنان ومن يحميه من السقوط المدوي و المريع.
يعيش لبنان اليوم، أسوأ مرحلة في تاريخ حياته وفي تاريخ كيانه. تلقّى الحرب الإسرائيلية على الشريط الجنوبي، بثبات وقوة، وظل شعب هذه القرى المكابدة، يحتفظ بقوة التحرير والدفاع والإندفاع، وكذلك الحشد والرصد، على الرغم من أصوات لبنانية، قد ارتفعت مندّدة، وهي بحق وازنة، في المعادلة الوطنية الكيانية الميثاقية اللبنانية. غير أن إزدياد قوة النيران عليه، جعلته يستيقظ على الفاجعة الكبرى، التي لم يحسب لها حسابا: دخل طيران العدو الأجواء اللبنانية كلها. وصار ينذرها تباعا، بحسب الأهداف التي حدّدها الموساد له، بعد إشتغاله عليها، لأكثر من ثلاثة أرباع قرن، كما يقول شارل مالك.
ومنذ السابع عشر من أيلول 2024 وعملية البيجر – payger، التي نفذها الموساد الإسرائيلي باللبنانيين، بلا أدنى مسؤولية خلقية، وبعدما كان قد نفذ عمليات الإغتيال بحق قادة الصف الأول في المقاومة، وفي حماس أيضا، وفي السلطة الفلسطينية، من القائد فؤاد شكر، إلى إسماعيل هنية، تجرّأ أخيرا في السابع والعشرين من أيلول 2024، من إغتيال بطل المقاومة وزعيمها ومرشدها وقائدها السيد حسن نصرلله، ومن إغتيال المبعوث الإيراني إليه، لتهدئة الموقف والمقاومة. فأسقط بذلك جميع التاباوات، عن رؤوس جميع القادة والرؤساء والزعماء، ليس في لبنان وحسب، وإنما في كافة دول محور الممانعة، وغير الممانعة.. لِمَ لا؟!
وأخذ العدو الإسرائيلي، آنئذ، يباشر تنفيذ الإعدامات رميا، لا بالرصاص، ولا بالعبوات ولا بالسيارات المفخخة، التي إعتادها في السابق، بل بالصواريخ الموجهة من طائرات محدثة ومن مسيّرات محدثة. ولا يهمّه من تطاله الصواريخ من السكان الذين يعيشون في بيئة المقاومة. فهؤلاء جميعا إنما يمثلون الدروع البشرية للمقاومة.
عشرة أيام بين «وقعة البيجر – Payger» في كل لبنان، وبين «وقعة الضاحية» التاريخية، التي أوقعت بسيد المقاومة، يكون لبنان قد دخل النفق المظلم. فلم يعد على رأس أحد فيه، أية خيمة. صار لبنان كله مكشوفا، بلا رئاسة ولا رئيس أصلا. صار عاريا بين الدول. وصارت شخصياته الوطنية جميعهم محكومين بالإعدام، بإنتظار ساعة التنفيذ التي يأمر بها العدو، ويرسل للتعجيل في تنفيذها الطائرات والمسيّرات إليهم ولو كانوا نياما، أو مموّهين في مخابئهم السرية في البيئات الحاضنة.
لم يعد القادة اللبنانيون، يتخفّون وحدهم في الأنفاق التي أعدّوها مسبقا، لحماية أنفسهم من غدر العدو بهم، بل صار اللبنانيون جميعا، إلى أنفاق الظلمة والظلام والمظلومية الحقة، حتى يحموا أنفسهم وعائلاتهم، من الطيران المغير في سمائهم، والذي ينفذ بهم حكم قيام إسرائيل الثانية، بلا خشية ولا تردد و بلا أي خوف من العدالة الأممية و الدولية.
العالم كله، يدير ظهره عن لبنان، يقول لشعبه ولزعمائه معا على حد سواء: لماذا تخلّيتم عن لبنانكم؟.. لماذا إستكنتم للجريمة الكبرى؟.. فنهاية الرئيس ميشال سليمان، هي غير نهاية الرئيس عون. إنتبهوا جيدا. فآن الأوان لتغيير الخرائط.. والآتي هو الأعظم!
* أستاذ في الجامعة اللبنانية