بات مؤكداً أن فريق «عاصفة الحزم اللبنانية» لم يعد مهتماً بأي من الاستحقاقات اللبنانية. لا رئاسة تعنيه. ولا قيادة جيش تهمه. ولا شواغر ولا دولة ولا عمل إدارة أو عطلة حكومة أو تعطيلها. لا شيء مما يحصل في بيروت أو لها يظهر على شاشات رصده. كلها مركّزة على دمشق وما حولها.
قبل أسابيع تحولت أنظارهم إلى جسر الشغور وإدلب. أوقفوا التفاوض حول التعيينات. حتى أنهم أقفلوا هواتفهم، لمن بقي منهم في «الفندق» اللبناني، فيما سافر معظمهم إلى حيث يمكن تقصّي أخبار غرف العمليات الداعشية بسرعة أكبر. قيل لهم يومها، وصاروا يرددون استظهارياً، إن سقوط إدلب وأريحا سيفتح الباب سريعاً نحو سهل الغاب. وحين يسقط السهل، سيدرك بشار الأسد بأن القرار الدولي بإزاحته بات إجماعياً. فحين تصير رايات البغدادي في السهل، سيدرك الأسد أن العالم، ومن ضمنه حلفاؤه، يبتزّونه بسقوط الساحل، آخر بقعة آمنة له. حينها سيدرك أن أوان التنازلات الكبرى قد حان. فيرحل، مقابل تسوية تضمن عدم سقوط «دولته»… يومها توقف البحث في موضوع التعيينات في بيروت. بدوا وكأنهم يضحكون في سرهم على كل من يفاتحهم بها. وبدوا أنهم ذاهبون في المناورة حتى الرياء المفضوح. بدوا أنهم لا يقيمون وزناً لجيش اليرزة وقيادته، بقدر ما ينتظرون جيش «الدولة» وخليفته.
فجأة جاء التطور ــــ الصدمة: الأكراد يضربون في تل أبيض. وبالتالي فالشريط الكردي بات يطوّق تركيا. غضب إردوغان من «تآمر» واشنطن، فأوقف المدّ في الشمال السوري. فهم أن الأميركيين لن يسمحوا له بتحقيق حلم سلطنته. لا بل أنهم «يقصقصون» المنطقة كلها بحسب فوضاهم. فتوقف الزحف الداعشي الثوري. وتأجّل الرهان في بيروت، وطارت التعيينات.
لم يستمر التأجيل الموقت طويلاً. فبعد أسبوعين جاء سقوط تدمر، ليعيد تشغيل الشاشات والرهانات نفسها. ضاعت زيارات الموفدين هباء. أطفئت أصوات الحوار ومحركاته. وعاد الصوت الذي لا صوت يعلو عليه: كلنا دواعش! بين يوم وليلة انطلقت التحليلات في الصالونات ومجالس اللاأمانات وحتى على الهواء: تدمر تفتح الطريق أمام «الخليفة» على مثلث استراتيجي سيغير وجه المشرق. قيل لهم مرة جديدة، وراحوا يرددون مرات ومرات، أن تدمر على تماس مباشر مع محطة إيبلا التي يمكن أن تطفئ نصف سوريا. وهي على مرمى تعطيل مطار تيفور، آخر مطارات الأسد الشغالة عسكرياً. وأنه بعد تدمر يمكن للبغدادي المحرر أن يتجه شمالاً فيلاقي «دولة» إدلب والشغور. أو يمكن له أن يتجه غرباً صوب حمص الواقعة على مرمى 20 كيلومتراً فقط من سكاكينه. فيقترب من حلم مياه المتوسط، تمهيداً لغسل دماء ذبائحه فيها. أو يتجه جنوباً صوب الأردن، فيكتمل تطويق دمشق. ومرة أخرى، قطعت الاتصالات البيروتية. لا بل ظهرت الفوقية الاستعلائية بأبهى حللها. لم يكتفوا بسحب البحث الواجب بالتعيينات القانونية في قيادة الجيش. بل أضافوا انتهاكاً لقانون قوى الأمن الداخلي. وصولاً حتى تعطيل الحكومة. ما همهم وما رف جفن. هي مسألة أيام ويعودون إلى حكومة أخرى، مشتركة ربما، على نطاق نصف الهلال الخصيب، أو بداية البدر الذي بشروا به…
ومرة جديدة لم تتأخر المفاجآت ــــ الصدمات: جمود في تدمر، ومذبحة في جبل السماق. هي رسالة تركية موقعة بالدم هذه المرة، اعتراضاً على غض النظر الأميركي، أو على محاولة رسم خريطة سورية جديدة، بالتجربة والخطأ. فعاد الإرباك، واستؤنف الجمود. لكن معه دائماً، طاووسية لبنانية بلغت حد البطر السياسي. في انتظار محور ميداني آخر.
وبالفعل لم يتأخر «المحور الإنقاذي» في الظهور. فدماء قلب اللوزة يجب ألا تذهب هباء. لا بد أن تثمر. وثمارها الأكثر قابلية للحصاد السريع تكمن في الجنوب السوري. اتصالات بين عمان وتل أبيب وواشنطن من بعيد. محورها ابتزاز السويداء وحشرها بين السكين والانشقاق. قاومت موجة الضغط الأولى. لكن الموجات اللاحقة ستكون أكبر وأشد وطأة وثقلاً. بعدها يسقط مطار غربها. عندها ستلتحق ثورة سلطان باشا الجديدة بالانتداب الجديد، نكاية بالتاريخ والكرامة. لتفتح المعركة على خطين عريضين: الأول من الجنوب صوب دمشق. والثاني من جبل الشيخ صوب حزب الله. وإذا ما احتاج الجزارون إلى طرق جديدة، فاسرائيل جاهزة لتشقها لهم في قلب مزارع شبعا. بحيث ينفتح أمام الإرهابيين ــــ الحلفاء مشروع عرسال ثانية عند سفح جبل الشيخ اللبناني. فيشغل حليف الأسد بين معركتي عدوين ــــ حليفين، اسرائيل والتكفيريين، وتنطلق باقي الجحافل المغولية صوب دمشق… في هذه الأثناء لا لزوم لتعيينات ولا لمن يعينون. ولا جدوى من حكومة ولا من يحكمون. كلها بضعة أسابيع وتحكم بيروت والشام معاً. بضعة أسابيع قصيرة، يمكن ملؤها بما أمكن من وسائل الإلهاء في انتظار الإلغاء. موعدنا بعد معركة دمشق إذن. فلننتظر الموعد الجديد.