قد تكون المرة الاولى التي يزور فيها موفد اميركي على تماس دائم مع الملف اللبناني من دون أن تنال الأهمية التي تكتسبها زيارات مماثلة. فجولة وكيل وزارة الخارجية الاميركية ديفيد هيل الوداعية على المنطقة، والتي بدأها من بيروت، وإن كانت الاخيرة له، لن تقدّم ولن تؤخّر في مجرى أحداث لبنان في رأي اركان السلطة. فهل من الصواب تجاهلها او إهمالها؟.
أخطر ما رصدته المراجع الديبلوماسية والسياسية في بيروت، كان حجم اهمال اهل السلطة والمؤيّدين لها، ما يمكن ان تأتي به مبادرات الموفدين العرب والأجانب واقتراحاتهم لصالح لبنان، وخصوصاً في الفترة التي أعقبت سلسلة من التطورات المأسوية الناشئة من الأزمة النقدية الناجمة عن عدم تسديد مترتبات الدولة اللبنانية جراء الديون الخارجية، للمرة الاولى في تاريخها، والتي تزامنت مع انتشار جائحة كورونا في لبنان والعالم. وعلى رغم ما رافق هذه المحطات من حصار عربي وغربي على لبنان، لم تتبدّل طريقة تعاطي الدول والحكومات، ومعها المؤسسات الدولية والهيئات المانحة، مع مسؤولي الدولة الكبار ومؤسساتها، مع تداعيات النكبة التي حلّت ببيروت جراء تفجير المرفأ، فبقيت محصورة بالمساعدات والخدمات الإنسانية والصحية والتربوية وإغاثة المنكوبين، من دون ان ترقى الى المجالات السياسية.
وما زاد في الطين بلّة، ان ترفع العقوبات الاميركية من الضغوط على اهل الحكم، التي طالت في المرحلة الاولى منها وزيري المال والأشغال السابقين علي حسن خليل ويوسف فنيانوس، لتورطهما في توفير الدعم المالي لـ «حزب الله» ومؤسسات تابعة له، الى ان طاولت لاحقاً رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل، على خلفية المزاعم عن فساد، أخضعته لعقوبات «قانون ماغنيتسكي». وإن أعاقت هذه التطورات عملية تأليف الحكومة بعد استقالة الرئيس حسان دياب، فقد شكّلت اسباباً مباشرة حالت دون ولادة «حكومة المهمّة» التي جيء من اجلها بالسفير مصطفى اديب من المانيا، وتفاعلت بنسبة أكبر مع إعادة تسمية الرئيس سعد الحريري بالمهمّة عينها، في خطوة وصفت بأنّها استفزازية لرئيس الجمهورية والمقرّبين منه، وقد شارك فيها اكثر من حليف من حلفائه وحلفاء الحلفاء، وهو ما ادّى الى تفاقم الأزمات التي تعيشها البلاد حالياً، والتي باتت محكومة بالفشل في مواجهة اي منها، بعدما باتت عالقة ومجمّدة بين حكومة تصريف اعمال لا يريد رئيسها التوسع في تطبيقها، وأخرى لم تُشكّل بعد رغم مرور اكثر من 6 اشهر لم يقبل خلالها الرئيس المكلّف الخضوع للشروط التي اعاقت مهمّته حتى اليوم.
ليس في ما سبق من تعداد لهذه المحطات السلبية من اجل التذكير بها وتوثيقها فحسب، بل من اجل الإشارة الى اصرار البعض ممن يمسكون بناصية الحلول، على إعاقة تنفيذ المبادرات الدولية والعربية والغربية، والتي تقدّمتها المبادرة الفرنسية على الرغم من التهليل لها، باعتبارها «خريطة الطريق» الوحيدة المؤدية الى مرحلة التعافي والإنقاذ، والى درجة باتت فيها المحاولات الجارية مكشوفة وواضحة للقاصي والداني، كلما اقترب اي منهم من معاينة مجموع الأزمات في البلاد على قاعدة مواجهة «الحرب الكونية» المعلنة على العهد، ومن خلاله على محور الممانعة، بعدما بلغت القطيعة الديبلوماسية ما لم يكن متوقعاً من قبل، لتشمل فريقاً من اللبنانيين يمسك بجانب مهم من الإجراءات الدستورية المؤدية الى الاستحقاقات المقبلة.
على هذه الخلفيات، نما الشعور الديبلوماسي والسياسي، بوجود قرار يعوق كل هذه المبادرات وتفريغها من مضامينها وما قالت به خطوة خطوة وبطريقة منتظمة لم تعد خافية على كثر من المراقبين الذين واكبوا مهمات «فريق الأزمة الفرنسي» المكلّف متابعة المبادرة الرئاسية منذ اطلاقها في بداية ايلول الماضي وصولاً الى ما انتهت اليه مهمة وزير الخارجية المصرية سامح شكري وموفد الامين العام للجامعة العربية حسام زكي، بعدما ثبت بالوجه الشرعي انتهاء مفاعيلها قبل ان يغادرا الاراضي اللبنانية.
وعليه، لا يمكن للمراقبين تجاهل سلسلة المواقف التي عبّر عنها الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون في اتصالاته مع المسؤولين اللبنانيين ومعه المواقف النارية لوزير خارجيته جان ايف لوديريان، فحُفظت ببرودة اعصاب في الأرشيف الديبلوماسي في المقار الرئاسية المعنية، على وقع ما انتهى اليه الحراك الديبلوماسي المثلث الاطراف الذي قاده السفير السعودي وليد البخاري ومعه السفيرتان الأميركية والفرنسية دوروثي شيا وآن غريو، اللتان جمّدتا فجأة نشاطهما عقب جولاتهما المكوكية على المسؤولين، رغم ما توافر لهما من دعم وفّره نظراؤهما، ومن بينهم القائم بالأعمال البريطاني مارتن لنغدن ورئيس بعثة الإتحاد الاوروبي في بيروت رالف طراف والممثلان الدائمان للأمين العام للامم المتحدة في بيروت يان كوبيتش ونجاة رشدي.
وفي هذه الأجواء، يستقبل لبنان وكيل وزارة الخارجية الاميركية ديفيد هيل، في زيارة أُسقطت فجأة بـ «الباراشوت»على اللبنانيين، ومن دون اي مقدّمات كانت تستبق عادة وصول اي موفد اميركي. ولذلك، فقد وُصفت بأنّها استطلاعية ووداعية، فهو يستعد الى ترك منصبه نهاية الشهر الجاري لخليفته السيدة فيكتوريا نولاند من ضمن التجديد في الإدارة الاميركية الجديدة، وانّه لا بدّ من ان يقول كلمته الأخيرة في بعض ملفات المنطقة.
ولذلك، لا تخفي المراجع الديبلوماسية قلقها من ان تلقى مهمته ما لقيته المهمات السابقة الآنفة الذكر. فهو ووفق ما توافر من معلومات سيتجاهل، بالإضافة الى اي لقاء مع مسؤولين من «حزب الله»، اللقاء مع النائب جبران باسيل، ولو سمحت له مهمته وصفته لتجاهل آخرين في مواقع المسؤولية، في وقت يدرك جيداً انّ زيارته لن تلقى الأهمية التي كانت تنالها سابقاً، وخصوصاً في المرحلة التي رافقت زيارته بيروت في 15 آب 2020، مكلّفاً من وزير الخارجية السابق مايك بومبيو، معاينة نتائج تفجير المرفأ. مستذكراً زيارته السابقة واللقاء الطويل الذي جمعه بباسيل في كانون الاول الماضي في البياضة، والتي بُنيت عليها آمال كبيرة عن امكان ترتيب العلاقات بين باسيل والادارة الاميركية، ما لبثت ان تبخّرت في وقت قياسي الى ان طاولته العقوبات الاميركية.
وعليه، فإنّ المقارنة بين هذه الزيارة وسابقاتها لا تجوز، لأنّ الظروف تغيّرت، وانّ ما سيتناوله البحث في ملف تشكيل الحكومة لا يقف على زيارته، وسيكون تجاهل اهل السلطة لهذه الزيارة ظاهراً للعيان، ما لم تطرأ اي مفاجأة. وان تناول ملف ترسيم الحدود كما له الاولوية فيها، فلبنان سبق الزيارة بقرب إتمامه الإجراءات لتعديل المرسوم 6433 الخاص بالخط البحري الجديد، الذي سيحكم المفاوضات المقبلة غير المباشرة مع اسرائيل، وهو امر سيفرض واقعاً جديداً، لن يكون في امكان هيل إجراء اي تعديل فيه، وسيكون القرار لدى المكلّفين الجدد من إدارته، في انتظار الكشف عنهم.