لا يتردد الديبلوماسيون الذين يتابعون الملف اللبناني من التعبير عن ذهولهم إزاء التعاطي الخالي من أي مسؤولية وطنية مع أزمة تشكيل الحكومة اللبنانية وسط انزلاق سريع للبلاد في اتجاه الفوضى الشاملة بسبب تصاعد حدة الانهيار الاقتصادي والمالي.
آخر هؤلاء كان وكيل وزارة الخارجية الاميركية ديفيد هيل الذي جاء لبنان في زيارة وداعية، وقبله كان وزير الخارجية الفرنسية جان ايف لو دريان الذي استمر في تقريع المسؤولين اللبنانيين واضطراره الى الاعلان عن اجراءات عقابية في حق المعرقلين. وقبل لودريان كان التحذير الصادم لرئيس الكنيسة الكاثوليكية البابا فرنسيس الذي تحدث عن خطر وجودي يتهدد لبنان، وهو الذي تعمّد عدم تحديد موعد قريب لزيارته للبنان لكي لا تعمل الطبقة السياسية الحاكمة على استثمارها سياسياً لمصلتحها. وتحت هؤلاء تسمع عبارات الذهول من الديبلوماسيين العاملين في لبنان حول الانانية والمصالح الشخصية والذهنية المريضة التي تسود اسلوب عمل الطبقة السياسية.
في الأمس ردد هيل بوضوح امام الذين التقاهم أن «لا احد يفهم ماذا يحصل»، واضاف قائلاً: «اذا كنتم تريدون فعلاً المساعدة لوقف الانهيار الاقتصادي يجب ان تنجزوا تأليف الحكومة، فأنتم في حاجة الى حكومة مسؤولة تتولى وضع لبنان على طريق الانقاذ وليس الانهيار». وفي كلام هيل ما يوحي أن بلاده تعرف جيداً الجهة المعرقلة وهو لم يتحدث في وضوح في هذا الاطار، لكنه تعمّد إطلاق بعض العبارات التي يمكن الاستنتاج منها والبناء عليها.
الموفد الاميركي ركز معظم حديثه حول الازمة الحكومية، اضافة الى الانهيار الاقتصادي والمالي الحاصل، وترك جزءاً صغيراً للحديث عن موضوع الترسيم البحري والتعديلات التي تم وضعها. هو انتقدها طبعاً وقال انها لا تساعد لبنان على انجاز ما كان تم التوافق حوله.
على الاقل، هذا ما حصل خلال لقائه مع رئيس مجلس النواب نبيه بري وفي دارة رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط. وهو قال ايضاً خلال لقاءاته انه سيبلغ الى رئيس الجمهورية الرسالة نفسها حول الحكومة والترسيم البحري. لكن على رغم من الرسالة الاميركية لا احد يتوقع حلحلة قريبة في الملف الحكومي. فطريقة التعاطي مع ملف تعديل الحدود البحرية كشفت انّ السعي الفعلي هو الى تفعيل حكومة تصريف الاعمال لا تمهيد الطريق امام ولادة حكومة جديدة. وعلى رغم من ذلك سيبقى رئيس الحكومة المستقيلة حسان دياب مصرّاً على عدم الدعوة الى أي جلسة لمجلس الوزراء مهما كان السبب. هو معروف عنه عناده الشديد وقد ابلغ الى كل من التقاه خلال اليومين الماضيين انه ليس في وارد الدعوة الى عقد جلسة للحكومة مهما حصل. وتابع كلامه قائلاً: «إذهبوا وشكلوا حكومة جديدة».
وهنا كان جواب دياب رداً على موقف رئيس الجمهورية ميشال عون حول تعديل الحدود البحرية. العارفون يقولون انّ التواصل بينه وبين دياب بارد جداً لا بل جليدي. نادراً ما يحصل تواصل مباشر بينهما، ففي الغالب تتولى نائبة رئيس الحكومة وزيرة الدفاع زينة عكر مهمة التواصل بين المرجعيتين. وتكفي الاشارة الى ما حصل في آخر جلسة للمجلس الاعلى للدفاع لتكوين فكرة واضحة عن مستوى العلاقة. فبعد ان افتتح رئيس الجمهورية الجلسة والقى كلمته توجه لإعطاء حق الكلام لأحد الوزراء المشاركين. فرفع دياب يده بما يشبه الاعتراض وبأنه صاحب الحق بالكلام بعد رئيس الجمهورية، وبالتالي لا يجوز تجاهله. ومعه بات واضحاً ان دياب لا يريد فتح باب تفعيل عمل الحكومة المستقيلة مرة لعدم اثارة الشارع السني، ومرة اخرى لكي لا يُحمّل قرارات موجعة شعبياً حول رفع الدعم، رغم أن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة أبلغ اليه أن ما تبقى من اموال لديه اصبح ما دون الخط الاحمر. لذلك باشر سلامة وقف الدعم بالتدرّج عن كل المواد الغذائية باستثناء القمح، وكذلك عن الادوية باستثناء المتعلقة بالامراض المزمنة.
امّا المحروقات فهي في حاجة الى قرار على مستوى السلطة السياسية، وهو غير متوافر حتى الآن. وقد يكون قرار تأجيل زيارة دياب للعراق الى اجل غير مسمّى، قد كشف أن الموانع الاقليمية والتي تساهم في عرقلة الولادة الحكومية ما تزال موجودة. وهي على مستويين:
– المستوى الاول، وهو يتعلق بالموقف السعودي المتشدد والذي ما يزال على حاله. فالسعودية ترزح تحت مشكلة اليمن وتوسُّع نفوذ الحوثيين الذي وصل الى مأرب. فالحوثيون باتوا يسيطرون على 75 % من مجمل سكان البلاد. والواضح ان ايران نجحت في تشكيل تهديد عسكري عند الحدود مع السعودية والذهاب في تهديد العمق السعودي من خلال الصواريخ والطائرات المسيرة. وفي الوقت نفسه ترزح السعودية تحت تكاليف الحرب الدائرة في اليمن وسط تراجع اسعار النفط بسبب الركود الاقتصادي العالمي نتيجة جائحة كورونا. وبالتالي، فإن تخلي الحوثيين عن سلاحهم والذهاب الآن الى حكومة وحدة وطنية يبقى حلاً غير واقعي في هذه المرحلة. فالمشهد في حاجة الى تسوية اكبر مفتاحها في يد واشنطن وطهران. وعند زيارته قصر بعبدا اشار السفير السعودي وليد البخاري بوضوح الى هذه النقطة. يومها، تم تسويق الزيارة اعلامياً بسطحية وسخافة.
– المستوى الثاني، وهو يتعلق بملف المفاوضات الاميركية ـ الايرانية والتعقيدات الخطرة التي ترميها اسرائيل. ذلك أنّ ثمة حرباً سرية عنيفة تدور رحاها بين اسرائيل وايران على وقع المفاوضات الدائرة. الحرب البحرية بدأت في العام 2018، وقد غَضّت ايران النظر مرات عدة عن العمليات الاسرائيلية. لكن اسرائيل التي تريد رفع مستوى الحرب السرية مع ايران، عمدت أخيراً الى تبنّي عملياتها اعلامياً كانت تريد بذلك احراج السلطة الايرانية لدفعها الى الانخراط في سياق الفعل ورد الفعل، وطبعاً الهدف الفعلي هو مَنح الايرانيين، المتشددين والرافضين أي قيود او اتفاقات خارجية على البرنامج النووي، دفعاً قوياً لموقفهم ما سيجعل السلطة الايرانية اكثر تردداً وحذراً في تقديم اي تنازلات تفاوضية. والواضح ان هجوم «نطنز» والاعلان عنه بهذه الطريقة انما يهدف الى ذلك.
لذلك جاء الرد الايراني على لسان نائب وزير الخارجية عباس عرقجي الذي اعلن أن بلاده ستبدأ بتخصيب اليورانيوم بنسبة 60 %. صحيح ان هذه الخطوة هي ادنى من نسبة 90 % المطلوبة لإنتاج سلاح نووي، لكنها ستقرب ايران من هذه العتبة. وهو ما ارادت طهران ان تتبناه اعلامياً بالضبط: توجيه ضربة قوية تشفي غليل الشارع وتزيل عنها حرج التفاوض.
وفي الوقت نفسه ستعمل ايران على استخدام هذه الورقة لتحسين موقعها التفاوضي في وجه الاميركيين. الهجوم على «نطنز»، والذي تزامَن مع وصول وزير الدفاع الاميركي لويد اوستن الى اسرائيل، فرض نفسه على جدول المحادثات. ونقلت اوساط ديبلوماسية أن المسؤولين الاسرائيليين اكدوا انهم لا يعتزمون استهداف جهود الرئيس الاميركي لاستئناف المسار الديبلوماسي في فيينا، لا بل على العكس انّ اسرائيل تدافع عن امنها، وفي الوقت نفسه ستمنح هذه العملية واشنطن مزيدا من الوقت للتفاوض قبل وصول طهران الى نقطة اللاعودة.
في المحصلة، إنّ المخاطر الكبيرة التي تحوط بالمفاوضات الاميركية ـ الايرانية تدفع بالطرفين الى التركيز الكامل على كل مساحة التفاوض والابقاء على كل الاوراق في اليد وعدم التساهل في اي منها. وهو ما يعني رفع مستوى الحذر الايراني وصولاً الى حلفائه و»حزب الله» على رأسهم في لبنان والتنبّه لإسرائيل، وفي المقابل انشغال اميركي كامل يبعد واشنطن مؤقتاً عن الساحة اللبنانية. لذلك مثلاً كانت زيارة هيل الوداعية زيارة استطلاع وليست ابدا زيارة مهمة، لكن رسائلها تبقى معبرة رغم انها لا تحمل طابعاً تنفيذياً. ولذلك ايضا يُحاذر «حزب الله» الاقتراب من الملف الحكومي، وهو يترك الهامش واسعاً امام حليفه «التيار الوطني الحر».
ولذلك ايضا يعمل الرئيس المكلف سعد الحريري على ملء الوقت الضائع بلقاءاته الخارجية، ما يؤدي الى تعزيز اوراقه الخارجية في وقت تعيش السلطة في لبنان حصاراً خارجياً. وهو طلب موعدا لزيارة بغداد ما سيعني توجيه ضربة قاسية الى عون ودياب في حال تحديد موعد له. ولأجل ذلك يتمسّك رئيس الجمهورية بالسقف الشاهق الذي رسمه، على اعتبار انه يمكن حجز مقعد له ولوريثه السياسي جبران باسيل في حال اختلطت الامور اكثر. الواضح انه يحمل مطلباً واحداً اساسياً وهو اعادة الحياة سياسياً الى باسيل.
لكن ثمة اخطاء إعلامية متعددة يرتكبها ما جعل صورته في المرحلة الاخيرة اقرب الى طرف سياسي منه الى رئيس للجمهورية.