عندما حددت زيارة نائب وزير الخارجية الاميركية للشؤون السياسية ديفيد هيل الى لبنان بعد زيارة الى العراق، كانت الفوضى تعمّ المشهد السياسي وصورة الحكومة المقبلة مبهمة كلياً. ولكن ومع وصوله الى بيروت كانت دوائر القصر الجمهوري قد أعلنت لتوّها تكليف حسان دياب بتشكيل الحكومة المقبلة، وفق نتائج الاستشارات النيابية التي كانت بدأت صباح اليوم نفسه.
لا شك في انّ التطور الجديد دخل في حسابات زيارة الموفد الاميركي، ولو انّ برنامج لقاءاته لم يشمل دياب كونه كان معداً مسبقاً. وقد تكون عبارة «لننتظر ولنر» (wait and see) التي أكثر من استعمالها هيل خلال لقاءاته اللبنانية، هي النتيجة الحقيقية لمهمته اللبنانية.
صحيح أنه همس في أذن الفريق المواكب لجولته بأنّ أفضل الاجتماعات التي عقدها وأكثرها إفادة كانت مع الزعيم الدرزي وليد جنبلاط الذي استفاضَ في رسم المشهد بكل تفاصيله وبصراحة مطلقة، خصوصاً في ما يتعلق بـ«حزب الله» والنزاع الدائر معه، إلّا انه كرر تمسّك بلاده بسياسة العقوبات وانها ستستمر فيها ولو انها متمسّكة في الوقت نفسه بالاستقرار الامني والسياسي في لبنان.
واعتبر انّ التأخر في إنجاز الاصلاحات المطلوبة من خلال حكومة شفّافة، سيفاقم الازمة الاقتصادية الخطيرة التي يمر بها لبنان. ولا شك انّ هيل، وهو السفير السابق لبلاده في لبنان والخبير في شؤون المنطقة وملفاتها والتعقيدات، لمسَ جيداً تأثير «حزب الله» المخفي لتأمين وصول حسان دياب الى رئاسة الحكومة، وواشنطن لا تعارض ذلك شرط اكتمال الصورة من خلال وصول وزراء من خارج التأثير الحزبي وإلّا لكل حادث حديث.
بما معناه فإنّ واشنطن، التي لم تعترض على استبدال سعد الحريري بحساب دياب، تريد في المقابل وزراء خارج التأثير الحزبي فعلياً لا نظرياً، خصوصاً في حقائب وزارات الخارجية والدفاع والداخلية والطاقة والاتصالات…
والأرجح انّ واشنطن ستنتظر اعلان تشكيل الحكومة، وستتولى سفارتها في بيروت البحث في العمق وفي الخلفية الحقيقية لكل وزير قبل ان تقرر خطوتها التالية، والتي أعلنت عنها غير مرة. فإذا ما حصل ذلك فإنّ المساعدة الاقتصادية الخارجية للاقتصاد اللبناني المنهار ستبدأ ولكن بعد اقرار الاصلاحات المطلوبة، وأما اذا كان هنالك «تَذاكٍ» لبناني كما درجت العادة، فإنّ أبواب المساعدات لن تفتح، وبالتالي فإنّ الاقتصاد اللبناني يصبح في المجهول.
لذلك، وبخلاف المواقف والتصريحات التي تحدثت عن تبديل في الموقف الاميركي، فإنّ العارفين يؤكدون انّ هذا الموقف الاميركي ما يزال هو هو: إصلاحات تنفذها حكومة محايدة قبل فتح ابواب المساعدات.
لكن لهيل أسلوب هادىء بطبيعته، وهو ما اشتهر به منذ ان عمل في لبنان سفيراً لبلاده حيث نسج علاقات جيدة مع جميع الاطراف والقوى السياسية باستثناء «حزب الله». وما لفتَ خلال جولة هيل انه تجنّب إطلاق مواقف سلبية تجاه الحزب الذي كان قد تعامل بشيء من التوتر مع بداية الحراك الشعبي، حين وضع ما يجري في إطار «المؤامرة» الاميركية التي تستهدفه، وجاء مَن أجّجَ هذه المخاوف من القوى السياسية الحليفة له.
والمعلوم عن الزائر الاميركي انه يتميّز عن زملائه بالدقة الفائقة في اعلان مواقفه واختيار تعابيره، حيث اعتاد الفريق المعاون له على اطلاعه على كامل المواقف الرسمية والتي ستُعلن بتفاصيلها وترتيبها النهائي وانتقاء عباراتها قبل نشرها.
وبالتالي، فإنّ عدم إطلاق مواقف نافرة في اتجاه «حزب الله»، كان مدروساً وبهدف عدم استفزازه في هذه المرحلة، ولو انّ ذلك لا يعني أبداً تعديلاً في الموقف الاميركي خصوصاً لجهة استكمال سياسة العقوبات على افراد ومؤسسات مرتبطة بتمويل «حزب الله»، والذي سيطاول اشخاصاً من خارج الطائفة الشيعية.
في الواقع هنالك من يعتقد انّ لبنان دخل دهليز الانهيار الاقتصادي في توقيت إقليمي غير ملائم.
فالتدهور الاقتصادي الناجم من سوء ادارة الطبقة السياسية الحاكمة ومن الجشع والفساد الوقح المستشري جعلَ الانهيار الاقتصادي يبدأ باكراً، بعدما كانت التوقعات تشير الى انه سيحصل ما بين شهري نيسان وأيار المقبلين. ومعه كانت الامور ستتفاقم وصولاً الى الخريف المقبل حيث موعد الانتخابات الرئاسية الاميركية، والتي من المفترض ان يليها اتفاق جديد اميركي – إيراني سيسمح بإعادة إنتاج صيغة حكم جديدة في لبنان. والمعضلة الحقيقية اليوم هي حول ما اذا كان الاقتصاد اللبناني قادراً على اجتياز المرحلة الفاصلة عن الانتخابات الرئاسية الاميركية.
فهنالك همس في الاروقة المصرفية عن إفلاسات قد تطاول عدداً من المصارف وعن أزمات معيشية حادّة، ما استدعى وضع قوى سياسية أساسية خططاً لاستيراد المستلزمات المعيشية الاساسية عند وقوع الكارثة. وحتى أنّ كلام بعض رجال الدين المسيحيين لم يأت من الفراغ.
ففي الداخل الاميركي نزاع عنيف وصلَ الى حد اقتراع مجلس النواب الاميركي لمصلحة عزل دونالد ترامب، وهو ما يعني انّ المدة الفاصلة عن الانتخابات الاميركية ستكون شديدة القسوة. وفي التشريح الانتخابي الاميركي، فإنّ ترامب يتقدم على منافسيه بنسبة 40%، وهي النسبة التي لم تنخفض يوماً وتشكّل قاعدة ترامب الصلبة، لكنها تبقى غير كافية للفوز.
في يد ترامب الورقة الاقتصادية حيث يتمسّك الناخب الاميركي بحال الرخاء الاقتصادي التي حققها. والسبيل الوحيد لاستمرار هذا الرخاء هو استمرار تدفق أموال الخليج الى الداخل الاميركي. وأخيراً حقق اكتتاب شركة «أرامكو» اموالاً هائلة يريد ترامب إيجاد طريق لها الى الاقتصاد الاميركي. وطبعاً ما يؤمّن ذلك استمرار التوتر الايراني – الخليجي حيث للحماية الاميركية أثماناً مرتفعة.
واستطراداً، ألّا يعني ذلك أنّ ادارة ترامب تفضّل تأجيل التفاهم الكامل والنهائي مع ايران الى ما بعد موعد الانتخابات الرئاسية؟ ذلك انّ الاحداث الخارجية تلعب دوراً ايضاً في ترجيح الكفة في اوضاع مشابهة. وانطلاقاً من هنا، يسعى ترامب مثلاً الى استثمار عملية قتل ابو بكر البغدادي في حملته الانتخابية، مثلما أحسن سلفه استثمار قتل اسامة بن لادن عام 2011 وهو كان عاماً انتخابياً. ومثلما فعل جورج بوش الإبن ايضاً عام 2006 مع الاعلان عن قتل ابو مصعب الزرقاوي، وفق دعاية انتخابية بأنّ الرئيس يعمل على المحافظة على أمن الاميركيين وسلامتهم.
ومعه، فإنّ الهجمات السياسية على ايران يمكن ان تفيد حملة ترامب الانتخابية، ما يعني إرجاء الاتفاق معها الى ما بعد موعد الانتخابات.
ووفق هذا المنطق، فإنّ على لبنان تَدبّر أمره وإمرار الوقت بالكلفة الاقل في انتظار الوقت الملائم للصفقة الكبرى. لكنّ المشكلة انّ الواقع الاقتصادي والمالي مهترئ ومنهار، وهنا تكمن المشكلة.