أرسى الأسبوع المنصرم مجموعةً من القواعد والإلزامات التي ستحكم تشكيل وأداء السلطة في لبنان، وقد عبّرت عنها بوضوح ظروف وخلاصات زيارة مساعد وزير الخارجية دايفيد هيل الى بيروت. ربما كان المقصود من تأجيل الإستشارات النيابية الملزمة لمدة ثلاثة أيام تنتهي بتسمية الرئيس المكلّف قبل وصول هيل تتويج الإعتداءات المتكررة على المتظاهرين في الساحات، وتقديم الفصل الأخير من استعراض سافر للقوة يجمع بين استباحة الساحات، وإسقاط ميثاقية لطالما استُعملت كعرف يتقدّم على الدستور لاسقاط الحكومات بحجة عدم ميثاقيتها، أو لملء الفراغ الرئاسي تحت عنوان حصرية حق التصدّر بالرجل الأقوى في مذهبه. لكنّ رجل الخارجية الأميركي لم يخرج عن المتوقّع في التعامل مع حدث تسمية رئيس للحكومة من قِبل حزب الله وحلفائه. حدث ربما شاء مهندسوه إحداث صدمة من خلال المجاهرة بوضع اليد على السلطة التنفيذية، بعد إفراغها من مضمونها، لاستدراج مواقف قد تأخذ الإشتباك السياسي باتّجاه استتباع حركة الإحتجاج في الشارع للإدارة الأميركية، أو لإعطاء البلطجة على المواطنين عنواناً وطنياً يستخرج من قاموس نظرية المؤامرة المبتذلة.
لم يُستدرَج الموفد الأميركي لأي موقف، إلتزاماً بالسلوك الذي اعتمدته إدارته منذ الإنسحاب من الإتفاق النووي، والذي يتّسق مع دور الولايات المتّحدة في العالم كناظم للعلاقات الدولية في العالم بكافة أبعادها. فالاستراتيجية الأميركية المعتمدة أضحت ترتكز على عاملين إثنين، أولهما الإبتعاد عن المواجهة سواء المباشرة أو بالواسطة، فالولايات المتّحدة لا تعترف بالندّية لأي دولة في العالم، وثانيهما وضع لائحة معايير ترتكز على القانون الدولي أو على قوانين يتمّ استحداثها وفقاً لكل حالة، وتكتسب شرعيتها من التفوّق الأميركي. أما أدوات الإلزام المستخدمة لتطبيق الاستراتيجية فهي العقوبات الإقتصادية والمالية وإلزام المجتمع الدولي بتبنيها.
إنّ القول إنّ الموفد الأميركي لم يتطرق الى الملف الحكومي هو محاولة إضفاء نوع من القوة على الضعف المستشري في مفاصل الدولة اللبنانية، أو ما تبقى منها، سواء على مستوى القيادات السياسية المتحلّلة أو الإدارة المهترئة، أو هو محاولة للإيحاء بأنّ هناك بقايا من سيادة أو من قرار سياسي حر. لن تستطيع الدولة اللبنانية بمحاورها الممانعة وغير الممانعة وبما يدّعيه ساستها الضعفاء من قوة، الخروج عن لائحة المعايير التي شهرها دايفيد هيل بوجههم، والمتعلّقة بإلتزام النأي بالنفس والإصلاحات الهيكلية ومكافحة الفساد وضرورة أن تنال الحكومة ثقة الشعب المُنتفض في الساحات قبل البرلمان، وأن تستعيد الحكومة المنتظرة ثقة المجتمع الدولي، كشرط للحصول على المساعدات التي تنقذ وطنهم من سقوط حتمي. هذا مع تأكيد الزائر الأميركي على منابر الرئاسات الثلاث الإستمرار في العقوبات على الأشخاص والكيانات التي يثبت تعاونها مع حزب الله الى أي جهة سياسية انتمت.
أما على المقلب الآخر المتعلّق بتبعات تعاطي «جهابذة لبنان» مع الملف السوري، فلا يمكن إشاحة النظر عن تداعيات «قانون قيصر لحماية المدنيين في سوريا لعام 2019»، الذي وقّعه الرئيس الأميركي دونالد ترامب منذ أيام، بعد موافقة مجلسي النواب والشيوخ، والذي من شأنه فرض عقوبات على كافة الأفراد والشركات التي اعتبرها القانون مموّلة لآلة الحرب في سوريا ، بما في ذلك البنك المركزي السوري، والشركات النفطية، وشركات التشييد والبناء، والميلشيات. هذا بالإضافة إلى ردع البلدان المجاورة عن توفير الدعم الإقتصادي لدمشق، والحظر على دول عربية وأوروبية من التطبيع السياسي معها أو المساهمة بالإعمار، مما سيعمّق الأزمة الإقتصادية في لبنان بحكم التداخل بين الإقتصادين واعتماد سوريا على النظام المصرف اللبناني وتراجع رهان المساهمة على إعمار سوريا.
إنّ ما يلفت النظر في مناخ التشكيل غياب طقوس اللبنانية من بيع وشراء ومبادلة. لقد غابت بقدرة قادر المطالبة بهذه الحقيبة الوزارية أو تلك لأنها سيادية أوخدماتية، وسقطت إلزامات الثلث المعطّل وحصة الرئيس من التشكيلة ومعها بدعة المناداة بوزارة لكل أربعة نواب وغيرها من تقاليد سوق الرقيق الدستوري والحكومي التي أُتحفنا بها منذ اتّفاق الدوحة وزاد الإمعان في استخدامها في هذا العهد. إنّ ضيق الأفق الذي فرضه الوضع السياسي والإقتصادي في لبنان، وسيف العقوبات الأميركية المفتوحة المُسلط في كل اتّجاه، وتبعات وضع قانون « قيصر لحماية المدنيين» قيد التنفيذ، الذي ربما يطال شخصيات لبنانية اعتادت إقتحام المنابر وتقديم أوراق اعتمادها لكل عابر سبيل، يظهر أنّها العلاج الشافي لكل الأوبئة التي أُدخلت على الحياة السياسية والدستورية، وهذا ما يفسر سلاسة الإستشارات التي أجراها رئيس الحكومة المكلّف وإحجام أبطال الفساد عن التنظير بالإصلاح، بل اختفاء سقوف مطالبهم ، وليس تعفف من أدركوا أنّهم أوصلوا لبنان بالشراهة وحب الإستئثار إلى ما وصل إليه.
* مدير المنتدى الإقليمي للدراسات والإستشارات