Site icon IMLebanon

ديفيد هيل و«حزب الله» والرئاسة بينهما

لا مفر من انتخاب رئيس جديد للجمهورية في لبنان. الدولة تفرغ تباعاً. الفراغ يحتل المؤسسات. الحياة السياسية اكتفت بالحوار والانتظار، ولا أفق أبداً لأي فريق. كأن الجميع يحاول فقط النزول عن الشجرة، لاستراحة مؤقتة. ليس في يد اللبنانيين حيلة أو حل. اجتماعهم على الأدنى مستحيل، فكيف انتخابهم للمقام الأعلى؟

لكن لا مفر من انتخاب رئيس جديد، إن لم يكن اليوم، ففي يوم من الأيام. وقد تطول الأزمنة في منطقة مأزومة منذ أربع سنوات ومرشحة لدوام التأزيم، لعقد أو أكثر. لذا، لم تسفر المواعيد المفترضة للانتخاب، عن نصاب واحد لتأمين الجلسة: الصندوقة حاضرة، والأوراق جاهزة، ولكن اسم الرئيس لم يكتب بعد، أو لم يكتبوه لنا بعد.

ومع ذلك، لا مفر من الانتخاب، إن لم يكن بقرار داخلي، أو بصيغة ديموقراطية معتمدة في البلدان الديموقراطية، فليكن بمساعدة خارجية، والأصح، بقرار خارجي. غير أن الناخبين الجديين والمرجحين، المقيمين في الخارج، مشغولون بإدارة حروب وقيادة معارك وتنسيق جهود وتفاوض دؤوب (على النووي) وانتقال سلطة من.. إلى (في السعودية) ومراقبة اندفاعة إيران لمساندة الحوثيين في اليمن المهدد بالسقوط والتشظي والتفتت، ولمساعدة العراقيين ميدانياً في محاربة دولة «داعش» العظمى، وللانتشار في الجولان، على تخوم الأرض المحتلة في فلسطين، تحضيراً لحصار أو تأهيلاً لتحرير ربما.

عبث. لبننة الرئاسة غير ممكنة، وتعريبها اليوم مستحيل، وتدويلها ليس في الحسبان. لدى ما تبقى من العرب مخاطر وجودية، ولدى العالم، غرباً وشرقاً، ما يشغله عن الاهتمام بمقعد ماروني، في منطقة تهجير ديني واثني ومذهبي، لا طاقة له على وقفها.

فماذا عدا مما بدا، حتى يخرج السفير الأميركي في بيروت ديفيد هيل، ليحرِّض اللبنانيين على انتخاب رئيس جديد. لم يأت كلامه بصيغة جواب عن سؤال، بل بصيغة بيان تناول فيه التحديات والتهديدات الجدية «التي تواجه اللبنانيين، فالإرهاب والتطرف على الأبواب، واللاجئون السوريون عبء هائل»، و «المؤشرات الاقتصادية في البلاد إلى انخفاض»، والاستقرار مهدد بسبب «انتهاك حزب الله لسياسة النأي بالنفس»… واستعادة «لانتهاك المعايير الدولية وقرارات مجلس الأمن الدولي… في كانون الثاني الماضي»، وانتهى إلى تحميل «حزب الله» مسؤولية اتخاذ «قرارات الحياة والموت، نيابة عن كل لبنان، فلا يشاور أحداً، ولا يخضع لمساءلة أي لبناني، ويرتبط بقوى خارجية»…

السفير الأميركي يعرف جيداً دور أميركا في لبنان. ولا حاجة إلى فتح الأرشيف في عوكر. فالأدوار التي لعبها بنفسه، هي التي أخرجت تأليف الحكومة الحالية من عنق الزجاجة، وهي التي أقنعت الطرف الذي يتأثر بـ «نصائحها»، بضرورة التخلي عن «الفيتو» المعلن، «لا حكومة يشترك فيها حزب الله».

السفير هيل يعرف جيداً أنه من القوى الخارجية ذات النفوذ، والتي تلعب أحياناً دور المعرقل، وأحياناً دور المسهل، وفق مصالحها وقراءتها للواقع ومَن فيه من قوى. لقد اتضح أن الحرب على التكفيريين والإرهابيين في لبنان أسفرت عن نقل ملف مكافحة الإرهاب من جهاز أمني إلى جهاز آخر. ولقد اقتربت المسافات في هذا الميدان، برغم حالة العداء المستمرة بين أميركا و «حزب الله».

لم يكن منتظراً أن تنتهي حالة العداء. فما بين أميركا والمقاومة عداء مزمن، لأسباب غير أميركية، بل لأسباب إسرائيلية بحتة. أميركا وإسرائيل، برغم أوباما ونتنياهو، محكومان بأن يتصرّفا وفق منطق التوأمة. والخلافات بين تل أبيب وواشنطن عابرة ومؤقتة.

هل جاء كلام هيل في موقعه وهو يطالب اللبنانيين بالاعتماد على الدستور لملء الفراغ الرئاسي؟ هو يعرف أن الدستور اللبناني ليس مرجعاً وحيداً، وفي بيانه عبارة واضحة عن ضرورة التوافق. فكيف يوفق بين الإثنين؟ التوافق بين اللبنانيين، توافقاً إقليمياً ودولياً، غير متيسِّر وليس في الأفق المنظور. ومعروف أن لا إمكانية لاكتمال النصاب، قبل الاتفاق على الرئيس العتيد.

ظاهر أن البيان جاء ليغسل يدي أميركا من جهة، بسبب عدم قدرتها على حمل الأطراف اللبنانية، غير المستقلة عن الأطراف الخارجية، على الالتزام بمرشح تنتخبه. وهذا صحيح. ليس في يد أميركا صنع المعجزات. لم تعد سيدة المنطقة، وليست سيدة الحالة اللبنانية. فأكثر من نصف اللبنانيين يعتبرون سياستها عدوانية وعدائية، وصورتها لم تتغير، إلا إزاء البعض، منذ أكثر من نصف قرن. بل إن الكثير من اللبنانيين والعرب يعزو مآسينا القديمة والجديدة، إلى السياسة العدائية التي انتهجتها إزاء العرب. ولقد دفع لبنان أثماناً باهظة نتيجة هذه السياسة، فحروب إسرائيل على لبنان واجتياحاتها قراه ومدنه وارتكاب المجازر وتحويل بعض لبنان إلى ركام مراراً، كانت تحت عين أميركا، وأحياناً برغبة منها، ودائماً في ظل حمايتها، ودوماً ضد إدانتها.

إذا كان كلام هيل لا يصب في مصلحة تسهيل الانتخاب، فهو إذاً قد استفاد من المناسبة، ليشن كلاماً عدائياً ضد «حزب الله»، بسبب «انتهاكه» سياسة «النأي بالنفس».

أي عاقل يصدِّق أن اللبنانيين، في دولة لبنان، قادرون على النأي بأنفسهم عما يجري حولهم؟ أيّ سياسي يفهم السياسة من خلال الوقائع، لا من خلال منظومات الأفكار والعقائد، يدرك أن لبنان دولة غير مستقلة عن محيطها. لبنان، كواقع تاريخي حديث، أثبت أنه لا يكتفي بحدوده، وشعبه يفيض عن نصوصه ومواثيقه، ويقيم علاقات واتصالات ومعاهدات، بشكل مستقل عن الدولة… في لبنان، لبنانيون سعوديون، ولبنانيون إيرانيون، ولقد كانوا في السابق، لبنانيين عروبيين وناصريين وسوريين، ولبنانيين فينيقيين وغربيين ومع إيزنهاور وحلف بغداد…

هذا هو لبنان. ولأنه كان كذلك، واستفحل أمره بعد ذلك، فليس باستطاعته انتخاب رئيس للجمهورية، وليس أمام من يفهم قليلاً، سوى الرجاء باستعجال انتهاء الحال في الإقليم بطريقة ما، ليتسنى للسياسيين في لبنان تلقي التعليمات، لكتابة اسم الرئيس الجديد.

لا قدرة للبنانيين على أن يكونوا لبنانيين فقط.