ليس من عادة رؤساء الولايات المتحدة الأميركية المشاركة، أثناء تبوّئهم السدّة، في “المنتدى الإقتصاديّ العالميّ”، إذ لم يشارك على مدى العقود الماضية في الإجتماع السنويّ للمنتدى الذي انطلق عام 1971، ويحمل التسمية الحالية منذ 1987، في دافوس السويسرية، سوى الرئيس الأسبق بيل كلينتون عام 2000. بعد كلينتون، لم يشارك جورج بوش الأبن ولا باراك أوباما في المنتدى الذي تختلط فيه نهاية كانون الثاني من كل سنة “النخبة الرأسمالية الكوكبية” مع قادة دول ورؤساء حكومات و”رواد التكنولوجيا” ووجوه ثقافية وإعلامية ودينية لها حظّ من أضواء العولمة.
أمّا رجل الأعمال دونالد ترامب فخاض الإنتخابات الرئاسية تحت شعار محاربة “حزب دافوس”، وكان معظم كبار رجال الأعمال في أميركا في صفّ منافسته هيلاري كلينتون. ندّد ترامب بإنتماء هيلاري كلينتون والمموّلين لحملتها إلى هذا المناخ “الدافوسي” الذي من شأنه إرهاق الولايات المتحدة، في حين أن المطلوب سياسات حمائية لها، إقتصادياً وتجارياً، وعودتها إلى تنشيط الإنتاج الصناعي داخلها. مثيرة إذاً مشاركة ترامب في هذا المنتدى، بالتزامن مع دخول ولايته عامها الثاني، ومع “حملات استنزافية” يتعرّض لها هو وفريقه، ولا يبدو أبداً إنّها آيلة للإنحسار.
لكنّ ترامب يأتي إلى دافوس للكلام “ضد دافوس”، والدفاع عن الحمائية الأميركية بوجه كلّ من أوروبا والصين. يجري النظر في المقابل إلى المستشارة الألمانية انجيلا ميركل على أنّها التي تمثّل وجهة النظر المخالفة بإمتياز لطروحات ترامب، غير أنّ ميركل الحاضرة في المنتدى لا تستطع تشكيل حكومة ألمانية جديدة بعد منذ الإنتخابات التشريعية في أيلول الماضي، ولأجل هذا ثمّة من يعوّل على مواقف الرئيس الفرنسي فرنسوا ماكرون، للتعبير من خلالها عن مناخ متمسك بالعولمة الليبرالية، لكن أيضاً بتصحيحها، من خلال إعادة الوصل ما بين النمو الإقتصاديّ وما بين الأبعاد الإجتماعية. وقبل ماكرون كان لافتاً موقف رئيس الوزراء الهندي ناردره مودي، الذي، وعلى الرغم من اشتراكه في ملامح أيديولوجية عديدة، كيميني قوميّ شعبوي، مع شعبوية دونالد ترامب، فضلاً عن تزايد التقارب بين بلاده والولايات المتحدة بعد وصوله ثم وصول ترامب إلى السلطة، إلا أنّه وجّه نقداً صارماً للحمائية التي يحمل لواءها ترامب، وإذ أعتبر أنّ العولمة تتعرّض لهجوم خطير، كاد أن يساوي بين الحمائية وبين كل من الإحتباس الحراري والإرهاب.
اللافت في المنتدى هذا العام قلّة الإشارة إلى أنّ هناك مشكلة تتهدّد ليس فقط العولمة الإقتصادية “النيوليبرالية” ومؤسساتها ودعائمها، بل أكثر من ذلك ما يتهدّد الفكرة الديموقراطية، بتفاوت طبعاً بين أقاليم العالم وبلدانه، لكنه تهديد عالمي للفكرة الديموقراطية التمثيلية غير مسبوق إلى هذه الدرجة منذ مشهدية “المبايعة العالمية” لها بعد انهيار الإتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة. ومع التراجع النسبي للتركيز على مسائل الإرهاب، وأفول ظاهرة تنظيم “داعش”، يزداد إلحاح النقاش حول تراجع مؤشرات الديموقراطية وحقوق الإنسان عبر العالم، وترادفها في منطقة الشرق الأوسط كبوة “الربيع العربي” بعناصرها وأسبابها المختلفة والمتشعبة، لكن أيضاً تراجع هذه المؤشرات في أوروبا الشرقية، وفي بلدان عضو بالإتحاد الأوروبي. حتى الآن، طرفا الجدل في “دافوس”، أنصار الحمائية، وأنصار فتح الأسواق، يناسبهما “تحييد” مسألة تراجع أو تخلّع الديموقراطية جانباً، لا سيّما وأنّ معسكر من تناسبهم الحمائية، ومعسكر من يناسبهم تخفيض الحواجز الجمركية، فيهم هنا وهناك بلدان انكفأت فيها الفكرة الديموقراطية التمثيلية بشكل حاد في العقد الأخير، أو بلدان لم تلتفت من الأساس إلى هذه الفكرة. فبعد كلّ شيء، نحن أمام تلاقي الصين المحكومة من حزب شيوعي، والبلدان الأوروبية الغربية على تأييد فكرة حرية التجارة، في مقابل تلاق أميركي – روسيّ على الحمائية الإقتصادية. والحال أنّها واحدة من مفارقات ما يعيشه العالم. كمثل مفارقة أنّ دونالد ترامب وبعد عام من التهديد والوعيد لكوريا الشمالية، فإنّ اجراءاته الحمائية الأخيرة أضرّت بصادرات غريمتها، كوريا الجنوبية.
لمنتدى دافوس عنوان كل عام. المحور الأساسي لهذه السنة هو “بناء مستقبل مشترك في عالم مفكك”. مقارنة بمحاور السنوات السابقة تظهر هذه العبارة منسوباً غير قليل من التشاؤم .. العالم المفكك. بالنسبة لأنصار “الحمائية”، حرية التجارة سبب هذا التفكك. بالنسبة لأنصار حرية التجارة العكس. صحيح أنّ هناك رغبة في توليد تفاؤل يخرجنا من حالة “تفكك العالم” هذه، لكنها تنطلق من الإقرار بحالة غير مسبوقة من التدهور منذ نهاية الحرب الباردة.
لكن “تفكك العالم” ليست فقط مقولة تطرح نفسها على الصعيد الكوكبي، هي مطروحة على كافة الصعد، الاقليمية والوطنية، وصولاً إلى تلك الشديدة المحلية. وهذا يصح خصوصاً بالنسبة إلى لبنان، الذي شارك من خلال رئيس حكومته سعد الحريري في المنتدى، وأكّد خلاله على مغزى سياسة النأي عن الإستنزافات الإقليمية من جهة، وإطار المصالح الإقتصادية العربي الذي يجد لبنان نفسه فيه.
بمعنى من المعاني، فمن صالح اللبنانيين استعادة عنوان المنتدى السنوي، ولبننته .. من “بناء مستقبل مشترك في عالم مفكك” إلى إعادة التفتيش عن مستقبل لبناني مشترك في بلد وسط منطقة مفككة، وله ماض عانى التشظي والتفكك، وحاضرة فيه عناصر التفكك، وهو، إن نجح في “إدارتها” أو “تأجيلها” كبلد، بشكل أو بآخر حتى الآن، إلا أنّها تطرح نفسها بشكل مختلف في كل فترة، ويبدو أنها ستطرح على نحو ملح أكثر في “الموسم الإنتخابي” الذي تتصاعد فيه “غريزة الإشتباه” بين القوى.