IMLebanon

أقطاب التعطيل

 

سنة ونصف مرّت على الفراغ الرئاسي، والبلد من دون رأس، فوضى عارمة، ومسيحيون مشتّتون من دون قضية أو هَمّ مشترك، هَمّ الوطن والاقتصاد والهجرة واجتياح البلاد من اللاجئين السوريين.

لا من يُبادر أو يتنازل، وكأنّ الزعماء المسيحيين متحالفون أصلاً على استمرار نفوذهم وأسباب وجودهم، شعارات رنّانة من حين الى آخر لتحريك ما تبقّى من عواطف مجتمع، فقَد عاطفتَه وأمله بالوطن.

أتت المبادرة الرئاسية الأخيرة، وكما كان متوقعاً من خارج الكتل المسيحية الرئيسية، بسبب عجز تلك القوى عن تحقيق أيّ خرق إيجابي في جدار الجمود الرئاسي العقيم، فتسابُقهم يبقى طاغياً على كلّ الأمور الأخرى، بما فيها الخير العام ومصلحة الوطن، وهنا نعود بالذاكرة الى ذلك التاريخ، الذي ما انفكّ عن إعادة نفسه عبر مشاهد تَمنّينا عدم تكرارها، لكنّ قواعد التاريخ أقوى من المنطق والحاجة، فقط السلبية تبقى سيّدة الموقف ومنظمة لعلاقات الأقطاب المسيحية بين بعضهم البعض، واصطفافات الـ88 خير شاهدة على ذلك، وما اليوم إلّا امتداد لهذا التاريخ المشؤوم.

مرّة جديدة تتآكل القيادات المسيحية، لا تُبادر ولا تقبل المبادرة، ولا تُقدّم البدائل، تبحث فقط عن لحظات تلعب من خلالها دور الضحية سعياً وراء استعطافات شعبية.

لا نفايات، ولا هجرة، ولا مليون ونصف نازح سوري، ولا بطالة، ولا إنهيار المؤسسات هزّت مضاجعَهم، فقط إحتمالات التسابق وجنون السلطة تستدعي الاستنفارات الكبيرة.

بالأمس في بكركي تعهّدوا السير بمَن تسنَح له الفرصة والظروف، هي قصّة لعنة بدأت منذ أواخر الـ 1988، فأثناء اجتماع الرئيس أمين الجميّل بالرئيس حافظ الأسد، أدخَل له مرافقه ورقة، همسَ بعدها الأسد عبارة، لا لزوم لإكمال اجتماعنا، فجعجع مجتمع في هذه اللحظات مع عون في وزارة الدفاع.

يومها اجتمعا لإقفال الطرُق على احتمالات التمديد للرئيس الجميّل، فكان الفراغ لسنتين تربّعَ خلالها الجنرال ميشال عون على كرسي الرئاسة الضائعة والوزارات الستّ، و»الحكيم» في المجلس الحربي، وفي إمرتهما أكبر قوّتين عسكريتين في البلد، أجهزة أمنية، وزارات، وصلاحيات، واقتصاد، وشعبية مسيحية لا حدود لها، لن أستفيض بالنتائج لكي لا أحوّل هذه المقالة الى تذكير بواقع دراماتيكي مدمّر لمجتمع عريق بثباته ودوره في هذا الشرق، بل سأسلّط الضوء على عدم تمكّنِهما من إبرام اتّفاق يعيد الرئاسة الى الجمهورية، فكانت التّسوية التي انتزعَت من المسيحيين صلاحياتهم، تسوية أتت لتُجسّد أمراً واقعاً وتوازنات بعد الحروب العبثية.

أزيحَ القطبان، وتُرك المسيحيون مع رئيس لم يختاروه وسلطة لم ينتخبوها. ومع تعيين موعد للانتخابات النيابية عاد طيف القطبين ليتّفقا مرّة أخرى على التعطيل، هذه المرّة تعطيل مشاركة المسيحيين في الحكم، فكانت المقاطعة الشاملة لانتخابات أنتجَت طبقة سياسية جديدة لا تمثّل الرأي العام المسيحي آنذاك، فكيف يشارك المسيحيون من دون قطبَيهما؟

لا حصَص في غياب حصّتيهما، ولا سلطات من دون سلطتيهما، فكان الانتظار الطويل حتى العام 2005. يومَها اعتقَد المسيحيون أنّ فجر الحرّية بانَ، وشمسَ الكرامة أشرقت، صبيحة ذات يوم زار فيها الجنرال الحكيم في زنزانته، فانتظروا وحدةً في الحكم لاستعادة الحقوق، فأتت النتيجة مرّة جديدة مخَيّبة للأمل.

عام 2008، أتت التسوية الرئاسية بعد شغور أشهر، فأتت مواجهات دامية قارعة طبول الحرب، فعلت أصوات الطلقات النارية خارقة جدار صمت القيّمين على شؤون موارنة إنطاقية وسائر المشرق وانتُخب ميشال سليمان رئيساً للجمهورية.

إنّه الفراغ القاتل مجدّداً، منذ عام 2014، ولكن هذه المرّة جاء مَن يُنبّه أنّه ينبغي إلهاء المسيحيين بما يسمّى ورقة النوايا، لربّما جاء من يستعرض هذا التاريخ المهين بحقّ شعب ذاقَ القصف والفقر والتهجير، وظلّ وفيّاً لزعماء بنوا ثروات سياسية على حساب هذه الثقة، فعندها ستكون المحاسبة قاسية ويليها بحث عن قيادات بديلة، وحدها كنيسة القدّيس يوحنا بولس الثاني تنبّهَت لحاجة رعيتِها لقيادات بديلة، فأوصَت بذلك حرفياً عبر سينودس أعِدّ خصيصاً للبنان عام 1996.

إنّها ورقة يُراد بها ضمانة لعدم تحقيق هذا البند السينودسيّ المنشأ، ورقة ستنتظر الرئيس الجديد أياً يكن إسمه أو انتماؤه، لتنقضّ عليه وعلى ما تبقّى من موارنة إنطاقية وسائر المشرق.

فإنّ التاريخ يعيد نفسه فقط على الذين لا يقرأون التاريخ.