IMLebanon

التعطيــل بالإجماع

قبل يومين، اجتمعت «خلية الأزمة» وبحثت خيارات التفاوض لتحرير الأسرى العسكريين، فتاهت بين آراء واجتهادات ولم تستطع الوصول إلى قرار يطمئن الأهالي إلى مصير أبنائهم. قبل ذلك بساعات قليلة، انعقدت اللجنة الوزارية المكلفة وضع الحلول لمشكلة النفايات الصلبة، واطلعت على الدراسات والاقتراحات المعدّلة المبنية على الجهود الحثيثة والمضنية لوزير البيئة المسلّح بالصبر وطول الأناة.

ولكن اللجنة المنقسمة على نفسها قرّرت الهروب إلى الأمام، وتحميل كرة النار إلى الشركات التي سترسو عليها التزامات المعالجة، فوضعت على عاتقها ما عجزت عنه الدولة بكل «هيبتها» وقواها السياسية، وهو إيجاد مطامر بديلة لمطمر الناعمة.

الدولة المحكومة بقاعدة الإجماع في اتخاذ القرارات، تتعثر أمام ملفات ملحّة، ولكنها فرعية، قياساً بمشكلة لبنان الاقتصادية المركزية. والبلاد تدفع الثمن.

ففي اليوم نفسه، أعلنت وكالة «موديز» الدولية للتصنيف الائتماني تخفيض ديون لبنان بالعملات الأجنبية وبالليرة اللبنانية «بسبب ارتفاع مقاييس الدين الحكومي وتداعيات الأزمة السورية وضعف المالية العامّة وهزال النموّ الاقتصادي، وفقدان الاستقرار الاقتصادي». وأعقب هذا الإعلان إعلان مماثل بتخفيض تصنيف مصارف لبنانية كبيرة، وذنبها الوحيد أنها دائن كبير للخزينة اللبنانية.

الدولة التي لا تستطيع بتّ ملفات عادّية بسبب الاختلافات السياسية لا يمكنها، من باب أولى، اتخاذ قرارات استراتيجية لإنقاذ الاقتصاد اللبناني.

رئيس الحكومة تمّام سلام يملك النيّة والعزم لتغليب العمل على الجدل، واتخاذ القرارات بدلاً من تبادل الخطب والمزايدات. ولكن قاعدة توقيع كل الوزراء على المراسيم، التي تصدر نيابة عن رئيس الجمهورية، أدّت إلى جعل جزء كبير من قرارات السلطة التنفيذية خاضعاً للاجتهادات والتجاذبات، وعرضة للتسويف والتعطيل. إنها نتيجة مباشرة لشغور موقع رئاسة الجمهورية.

لا يمكن إدارة الدولة بالإجماع. ولبنان المتنوّع بتناقضاته الكثيرة، من الإيديولوجيات الكبيرة إلى الحسابات الصغيرة، لا يمكنه أن ينعم بالإجماع في إدارته السياسية، إلا بهدر الكثير من الوقت والجهد.

مشكلة لبنان لا يمكن حصرها بالقضايا والملفات التي تستنزف وقت الدولة وتستأثر به. إن لبنان يعاني من أزمة اقتصادية واجتماعية خطيرة، ضاعف النزوح السوري مفاعيلها وتفاعلاتها. والتصدّي لهذه الأزمة يتطلب وحدة الرؤيا ووحدة القيادة، ووجود خطة مركزية تقترن بإرادة الفعل لمواجهة الرياح.

أداء الاقتصاد اللبناني ضعيف ومتراجع، وقد أجمعت المصادر على أن معدّل النموّ الاقتصادي هذه السنة لن يصل إلى ٢%. أشار مسعود أحمد، المدير المسؤول في صندوق النقد الدولي، بعد زيارته هذا الشهر إلى لبنان، إلى أن معدّل النموّ هذا قاصر عن التأثير على مستويات الفقر والبطالة المتزايدتين في البلاد.

ضعف النموّ يعود إلى أن الاستثمار العام شبه معدوم، بسبب أوضاع الدولة وغياب الموازنة وضعف المالية العامّة، والاستثمار الخاص متردّد، بل متقاعس، بسبب خوف المستثمرين المحليين والخارجيين من الأوضاع السائدة في لبنان ومحيطه.

ويمكن الجزم بأن اتفاق القوى اللبنانية الرئيسية على خلق جو سياسي إيجابي، حتى من دون حلول جذرية، قد يبدّل الصورة بسرعة ويحث على زيادة الاستثمارات الخاصّة، بما يرفع مستويات النموّ. ولكن سلوك هذه القوى يصبّ في الاتجاه المعاكس، كأنه يفضل إثارة المخاوف على إشاعة الطمأنينة.

الاقتصاد اللبناني ينبض بفضل تحسّن الاستهلاك الخاص، وجزء كبير منه يعود إلى استهلاك النازحين السوريين. وهو ينبض أيضاً بفضل تحويلات غير المقيمين التي تشكل شرياناً حيوياً للاقتصاد اللبناني. فرغم كل الظروف زادت التدفقات الخارجية خلال الأشهر التسعة الأولى من العام الجاري بنسبة 7%، قياساً بالفترة المماثلة من العام الماضي. وهذه التدفقات المتزايدة عززت احتياطي مصرف لبنان، ضمانة الاستقرار النقدي والمصرفي، فزادت بمبلغ 3 مليارات دولار حتى أيلول الماضي وشارفت حدود الأربعين مليار دولار أميركي. هذه التدفقات، أيضاً، مكنت المصارف من زيادة ودائعها، وبالتالي تمويل دين الدولة وتنمية تسليفاتها للقطاع الخاص.

بمعنى آخر، الإيجابيات تولد خارج رحم الدولة، وخارج لبنان، ولا يمكن الإشارة إلى قرار واحد من الدولة ساهم في الحدّ من المشكلة الاقتصادية والمعاناة الاجتماعية، باستثناء مبادرات مصرف لبنان اليتيمة لتحفيز الاقتصاد.

بعكس ذلك تماماً، فالمالية العامّة، جرياً على عادتها في العقود الماضية، هي عبء على الاقتصاد والمجتمع. لقد تبخّر الفائض الأولي للموازنة منذ أربع سنوات، وإن عاد بشكل ضعيف هذا العام، واستعادت نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي منحاها الصاعد لتصل إلى 150%، وهو، بالمقاييس العالمية، مستوى بالغ السوء.

إذا كانت مؤشرات المالية العامّة ستسجّل نهاية هذا العام بعض الإيجابيات، قياساً بالعام الماضي، فالسبب لا يعود إلى جهود السلطات وقراراتها، أو إلى إصلاحاتها المالية، بل إلى التحويلات الاستثنائية من وزارة الاتصالات، وإلى عوامل ظاهرها إيجابي وباطنها سلبي، وبالتحديد تأجيل بت سلسلة الرواتب للقطاع العام والانخفاض الملموس في الإنفاق الاستثماري.

الأشهر التي مرّت على إقرار قاعدة الإجماع، في اتخاذ القرارات وتوقيع المراسيم، كفيلة بإظهار الشلل الذي تسبّبت به هذه القاعدة على الصعد السياسية والاقتصادية. وما هو المانع من الرجوع عن شرط الإجماع؟ فليكن التوقيع على القرارات والمراسيم بالأكثرية، ولتتحمّل الأكثرية المسؤولية أمام اللبنانيين.