بنجامين فرنكلن: «من يتخلى عن حريته من أجل الأمن، سيخسر الإثنين معاً».
في كتاب «ثروة الأمم» سنة 1776 أسّس آدم سميث لعلم الاقتصاد الحديث وقدّم فيه الأسس النظرية الاقتصادية للسوق، شارحاً ما أصبح يُعرف اليوم «الناتج القومي الإجمالي» و«الدخل» و«المنافسة والتبادل الحر» و«توزيع العمل والتخصّص» على أساس أنها قواعد الفعالية الإنتاجية. رأى أنّ سبب زيادة الثروة الوطنية هو العمل، وليس ما تخزنه الأمم من الذهب والفضة، وهي أساس نظريته الاقتصادية التي تحكم المنظومة الغربية اليوم.
الإنتاجية عند سميث هي مقياس الثروة، واعتبر أنّ حرية السوق هي «اليد الخفية للإقتصاد التي تدير الأسواق لتحمي نفسها من الأزمات، ويكون لديها القدرة على إعادة حالة التوازن بين العرض والطلب مع مرور الوقت.» ورفضَ تدخّل الحكومة في الاقتصاد، على هذا الأساس.
هذا المبدأ المُستند إلى اليد الخفية هو الذي اتخذته الولايات المتحدة الأميركية منذ نشأتها، وجعلت من اقتصادها الأول في العالم منذ سنة 1871 حتى اليوم، ولم يظهر من يقترب منها على مدى السنوات إلّا في حالات نادرة، وآخرها اليوم هو الصين التي تمكّنت، بعد الانغماس الإنتقائي في السوق، أن تحقّق قفزات نوعية هائلة على مستويات الإنتاج والدخل القومي، مع تحّسن واضح في مستوى معيشة جزء كبير من شعبها.
هذا المبدأ يستند الى عمادين متلازمين هما العرض والطلب، أي الانتاج والإستهلاك، ويمكن اليوم الكلام عن خلق الطلب من خلال العرض لزيادة الاستهلاك وبالتالي زيادة الإنتاج. هذا المبدأ في الولايات المتحدة الأميركية مطبّق بشكل فاضح، ويعتمد بشكل أساسي على الاستهلاك المحلي، ومن ثم التصدير بمختلف أشكاله. أمّا بالنسبة للصين، فمع أنّ عدد سكانها يفوق بثلاث مرّات ونصف عدد سكان الولايات المتحدة، لكنّ حجم الاستهلاك المحلي بقي محدوداً، وبقي اقتصادها يستند إلى يد الحزب الشيوعي الحديدية في الداخل، وترك يد آدم سميث لإدارة تجارتها في الخارج.
ماذا يعني كل ذلك؟ إنّ الحديث السائد اليوم هو عن كيفية تَمكّن الصين من احتواء الوباء (حتى الساعة) وانتشاره في العالم، بعد أن انطلق منها. وسأتغاضى بالكامل عن نظريات المؤامرة المحبّبة لدى الناس، معتبراً أن هذا الأمر غير ذي جدوى الآن. لقد تمكنت الصين من خلال إرث الحزب المنظّم والقادر على تحريك أدواته المتعددة بسرعة وفعالية، أن يوجّه كل جهده لتطويق خزّان الوباء في ووهان بسكانها الـ11 مليوناً، وذلك بفرض نظام الطوارىء عليها، وبالوقت ذاته تأمين كل الحاجات للخاضعين للحجر، في نظام قادر ومتمكّن من إحصاء كل نَفس يتنفّسه رعاياه. وهنا يعني أنّ تزاوج فوائد يد آدم سميث مع يد الحزب الشيوعي، تمكنا من حصر الانتشار وضبطه.
لكنّ الافتراض أنّ الهدف كان حفظ الأرواح بالمعطى الإنساني هو غير ثابت، وعلى الأرجح إنّ مسارعة الدولة لضبط الوضع الوبائي أنقذ الإقتصاد، ولو جزئيّاً، ولكن لا يمكن معرفة ما كان الوضع عليه لو أنّ الوباء كان قد خرجَ من ووهان الخزّان إلى باقي الصين. فما حَمى باقي البلد هو أنّ التواصل تَم قَطعه بالكامل مع باقي المدن، في بلد لا ينتقل فيه سكانه بكثرة، والسفر محصور بذوي الشأن في السياسة والإقتصاد.
ما هو مؤكّد من خلال رَصد الوباء في الأسابيع التي تَلت انطلاقه من ووهان، هو أنّ إيران، البلد المتواصل بشكل واسع مع الصين، أصبح الخزان الثانوي، وإيطاليا، وميلانو بالذات، التي كانت تستقبل معرضاً ضخماً، وتستقبل عادة الكثير من السوّاح الصينيين، كانت الخزان الثانوي الآخر. ومن هناك، تحوّل الوباء بسرعة فائقة إلى حالة عالمية.
السؤال التالي حول قضية آدم سميث، ويكمن في كيف فشلت أقوى دولة في العالم في محاصرة الوباء بالرغم من قدراتها العظيمة؟ الواقع هو أنّ تعدد مداخل الولايات المتحدة وكثافة الداخلين والخارجين منها، من مواطنين وغيرهم، ولكَون الخزان الوبائي غير محدد كما كان في ووهان، دفع علماء الأوبئة إلى التأكيد على أنّ حظر السفر مع الصين من دون غيرها في البداية، لم يَك ذا جدوى، لأنه في تلك اللحظة كان الوباء قد انتشر في كل العالم. وهنا السؤال الذي يلي، فلماذا لم تأمر السلطات المركزية بالإغلاق المُحكم منذ البداية؟ هنا تعود قصة آدم سميث الذي اعتبر أن لا سلطة يجب أن تقيّد الاقتصاد، ويبدو أنّ الأمر ينسحب حتى على سلطة الوباء.
لستُ أنا الآن ممّن يحاولون تسويغ قرارات الرئيس ترامب، فالرجل مثير للجدل كفاية، وأسلوبه في شرح موقفه مُنفر لدرجة لا تعطي المجال للإقناع. لكن ما قاله مؤخراً في إطار ترويجه للعودة إلى الوضع العادي بسرعة، بغضّ النظر عن تطور الوباء، مرتبط بإيمانه المطلق بوصايا سميث بأنّ الإقتصاد يأتي أولاً.
ما أراده ترامب هو أن يتحقق مع الوباء ما يسمّى «مناعة القطيع»، أي أن يُصاب ثلثا المواطنين، أو ثلاثة أرباعهم بالعدوى، وفي الوقت ذاته عَزل الضعفاء قدر الإمكان. هذا يعني أنّ الأمور ستصبح بحجم كارثة عظيمة، ولكن قصيرة نسبياً، من شهرين تقريباً. من بعدها تحصى الخسائر بالأرواح! وتعود عجلة الإقتصاد بسرعة للتعويض. أمّا في حال الحجر وتعميمه على كل الولايات وكل القطاعات، فهذا الحجر، بحسب كل الدراسات، سيستمر لفترات طويلة بنتائج غير واضحة.
من هنا كان كلام ترامب عن خوفه من «أنّ العلاج (المقترح بالإغلاق التام) هو أخطر من المرض ذاته»، فالعِلة في القدرة على الاحتواء، نابعة بالذات مِن الذي جَعل من أميركا البلد الأقوى في العالم. فلو كان البلد فيه منظمة حديدية، اجتماعية وسياسية ربما كانت قادرة على الاحتواء مثل الصين. لكانت بالأساس لا تتباهى بالحرية ولا تدّعي حَمل شعلتها. صحيح أنّ بعض الأميركيين اليوم، في العديد من الأوساط الأكاديمية، يأخذون من المثال الصيني مثلاً، لكنّ الواحد منهم لن يصبر على أسبوع واحد تراقبه الدولة فيه وتحصي عليه أنفاسه.
يد كورونا عابرة، مثلها مثل غيرها من الأوبئة، ستنتهي عاجلاً أم آجلاً، وقد تخلّف دروساً ستنساها البشرية بعد سنوات… لكن يد آدم سميث يبدو أنها باقية لإدارة الاقتصاد.