دشن أحمد الشقيري نشاطه السياسي كرئيس منظمة التحرير الفلسطينية بزيارة الصين الشعبية التي برزت في الستينات قدوةً للكفاح الوطني في مختلف بلدان العالم.
واستقبله الزعيم ماو تسي تونغ في مكتبه المتواضع مع وفد صغير يضم أمين عام المنظمة في حينه عبد المحسن قطان. وسأل ماو عن الخدمة التي يمكن تقديمها لحركة تحرير ناشئة، قال إنه يقدِّر انطلاقتها ويتمنى لها النجاح والظفر. وأجابه أحمد الشقيري بصوته الجهوري، عبر المترجم، أنه معجب بثورة الصين ونضالها الطويل، مؤكداً أن زيارته محصورة بتلقي بعض الإرشادات والنصائح المبنية على اختبارات شخصية. ورد ماو على الفور: يجب أن تحفروا خنادق على طول حدودكم مع إسرائيل وتباشروا في مطاردة العدو.
عندئذ قام الشقيري بعرض شامل للوضع الداخلي الذي يسيطر عليه الجيش الإسرائيلي، وقال إن تدخل الطيران الحربي يمنع مقاتلينا من النشاط. وقاطعه بنبرة حازمة: أطلقوا النار على الطائرات المغيرة. مرة ثانية، راح الشقيري يشرح للزعيم الصيني عدم تكافؤ المواجهة لأن المجاهدين الفلسطينيين سيصبحون أهدافاً سهلة، كونهم مكشوفين من دون غطاء جوي. وهز تونغ رأسه معترضاً وقال: إن الحرب لا تُخاض بقفازات بيضاء. نحن أيضاً لم نكن نملك طائرات لنحمي مقاتلينا في الخنادق.
ثم توقف فجأة عن الكلام ونظر الى الشقيري وأعضاء وفده نظرة معبرة، ثم أكمل: أتذكر جيداً أن وفداً من جيش التحرير الجزائري زارني ليطلب مني ما تطلبونه أنتم من نصائح وإرشادات. وقلت لأعضاء الوفد إنه ليست هناك وصفة سحرية يمكن استعمالها لربح الحرب سوى التضحية بالنفس. وفي نهاية الأمر، خسر الجزائريون مليون قتيل، ولكنهم عبّدوا طريق الاستقلال أمام 15 مليون مواطن!
قبل الانصراف، طلب الشقيري من ماو تسي تونغ تزويده ببعض المؤلفات التي كُتبت عن مسيرة الألف ميل لعل تعميمها على أعضاء منظمة التحرير يمنحهم فرصة الاقتداء بثورتكم المظفرة. وابتسم تونغ قبل أن يأمر بتلبية طلبه، ثم أوصاه قائلاً: حذار من تكديس الكتب أمام أعين المجاهدين، لأن ذلك الجدار الثقافي يحجب عنهم رؤية الحرب على حقيقتها القاسية!
هذا ما سجلته ونشرتُ بعضه على لسان المرحوم عبد المحسن قطان الذي اختلف مع الشقيري حول إدارة المنظمة، وانصرف آخر الأمر إلى إدارة أعماله الخاصة. علماً أن قطان كان عضواً نشيطاً في حركة القوميين العرب التي ضمّت في خلية الجامعة الأميركية في بيروت الدكتور جورج حبش والدكتور وديع حداد.
بعد مرور نحو نصف قرن على لقاء ماو تسي تونغ وأحمد الشقيري، مرت القضية الفلسطينية بسلسلة معارك بدأها ياسر عرفات، وريث أحمد الشقيري… وأنهاها جمال عبدالناصر الذي تولى عملية دعم القضية مع الملك حسين وحافظ الأسد. وكانت النتيجة إضاعة جزء إضافي من الأراضي الفلسطينية والعربية وزيادة عدد مخيمات اللاجئين الذين التحفوا السماء منذ حرب 1948.
عقب فشل الحرب العربية الثانية (1973) قرر الفلسطينيون خوض معارك انتحارية مستخدمين سلاح الحجارة. وفي الثامن من كانون الأول (ديسمبر) 1987، اندلعت الانتفاضة الأولى التي فاجأت الجيش الاسرائيلي وأحرجته. وكانت حصيلة الانتقام اعتقال 294 ألف مواطن فلسطيني، غصّت بهم المعتقلات. ثم تكررت هذه المحاولة خلال انتفاضة الأقصى سنة 2000.
وأشار رياض الأشقر في تقريره عن معاناة الأسرى في المعتقلات، وخصوصاً في سجني «هشارون» و «الدامون». وكتب عن المآسي اليومية التي يمر بها المُعتَقلون، إضافة إلى العزل والقمع وعدم السماح للأهل والمحامين بزيارتهم.
وذكر التقرير أن اثنين من الشخصيات الوطنية الفلسطينية قد لقيا حتفهما عندما حاولا الاعتراض على المعاملة السيئة، هما أسعد جبر الشوا من غزة وبسام الصمودي من جنين. ذلك أن حارسهما أطلق النار عليهما من أجل إنهاء تذمرهما.
وعلى رغم استنكار الأمم المتحدة وتهديد رؤساء الحكومات الإسرائيلية بعقوبات مختلفة، فإن الحصيلة الأخيرة للسجون والمعتقلات تؤكد وجود 6700 سجين وسجينة.
قبل أن تنفجر انتفاضة غزة بشهر تقريباً وصلني من الصديق الغزاوي سمير الشوا كتاب ممتع ومفيد يروي عبر صفحاته الـ350 حكاية المسؤوليات الجسام التي يشترك في تحملها كل الذين تناوبوا على حكمها.
ويُستخلَص من مراجعة كتاب «غزة… إلى أين؟» أن ابن هذه المدينة أدرى بشعابها. ولكنه همّش الشأن السياسي، وركز كتاباته على الشؤون الحياتية كالمطالبة بتحسين خدمات محطات الطاقة، ومنشآت التحلية، وحل مشكلة المجارير. كل هذه الأمور في نظره يمكن أن تجذب المستثمرين للمشاركة في عمليات البناء والإعمار.
يقول رئيس بلدية غزة نزار حجازي إن المدينة تعاني من توقف الكثير من المنح والمساعدات، خصوصاً تلك التي تمس الخدمات الأساسية كالوقود وتشغيل عمال النظافة والصيانة. وبيَّن في حديثه أن تدهور أوضاع المواطنين الاقتصادية أثَّر في قدراتهم على سداد فواتيرهم، الأمر الذي أثر بدوره في قدرة البلدية على توفير رواتب الموظفين.
ووفق آخر الإحصاءات، فإن نسبة الفقر في قطاع غزة بلغت درجة غير مسبوقة، ناهيك بارتفاع نسبة البطالة في صفوف الشبان إلى خمسين في المئة.
ويعاني هذا القطاع الذي يضم أكبر نسبة عدد سكان في الكيلومتر المربع، انهيارات متواصلة- اقتصادية واجتماعية – نتيجة الحصار المفروض من إسرائيل للسنة الـ13 على التوالي، وتعثر جهود المصالحة الفلسطينية الداخلية.
تبلغ مساحة مدينة غزة 350 كيلومتراً مربعاً، في حين وصل عدد سكانها إلى المليوني نسمة. وقد نجحت إسرائيل في فصل القطاع عن الضفة الغربية بهدف إنشاء دولة للفلسطينيين في المكان الذي وصفه شيمون بيريز بالقنبلة البشرية الموقوتة.
منتصف الشهر الماضي باشرت واشنطن في إرسال مؤشرات سياسية تدل على نية مبيتة تتمثل في إقامة دويلة مركزها قطاع غزة وأجزاء من الضفة الغربية. وبما أن الرئيس الفلسطيني محمود عباس اعتبر دعوة الرئيس دونالد ترامب إلى استئناف المفاوضات مجرد فخ نصبه مع بنيامين نتنياهو لذلك بدأت واشنطن البحث عن بديل.
أبو مازن قاطع اجتماع واشنطن الذي دعا إليه صهر الرئيس ترامب ومستشاره الخاص جاريد كوشنير، بالتعاون مع جيسون غرينبلات، المبعوث الخاص لعملية السلام. وحضر ذلك الاجتماع ممثلون عن اللجنة الرباعية الدولية والاتحاد الأوروبي وسبعة ممثلين عن دول عربية.
وقدم كوشنير في الاجتماع شرحاً مفصلاً عن الوضع الإنساني داخل غزة استغرق ساعتين، قال في نهايته إن الدول المعنية جاهزة لتمويل مشاريع تتعلق بالطاقة والمياه والمجاري.
وصف صائب عريقات تلك المشاريع بأنها مقدمة لحصر الدولة الفلسطينية بقطاع غزة وأجزاء من الضفة الغربية. وأكد أن واشنطن مهتمة حالياً بالبحث عن بديل لعباس كونه رفض المشاركة في مؤامرة سُميّت للتمويه «صفقة القرن.»
الصحف الاميركية كشفت بعض المعلومات عن الصفقة التي أعدها نتنياهو بطلب من ترامب. وذكرت أن السفير الاميركي في اسرائيل ديفيد فريدمان كشف عن بعض نصوصها المتعلقة بالأمن والعاصمة الجديدة لفلسطين. وقد نقل على لسانه هذه المضامين وفد اميركي كان زار إسرائيل. والـ «صفقة» تقول: وافق ترامب في شكل كامل على افتراض نتنياهو الأساسي بأنه لا توجد سبل أخرى للحفاظ على المصالح الأمنية البعيدة المدى بدون سيطرة عسكرية اسرائيلية على كل المنطقة التي تقع غرب نهر الأردن. ومن المؤكد أن السلطة الفلسطينية سترفض هذا الطرح لأنه يشرع الاحتلال ويثبت الوضع القائم.
كذلك تجاهلت الخطة موضوع المستوطنات، واقترحت أن تكون «أبو ديس» عاصمة لفلسطين. وقبل أن يتسنى للسلطة الفلسطينية الرد على هذه المزاعم، سألت ما إذا كان ترامب يدرك أن أبو ديس ليست في قطاع غزة.
خلاصة القول، إن قرار ترامب رفع مسألة القدس عن طاولة المفاوضات، الأمر الذي فرض على الطرف الفلسطيني تشكيل جسم دولي يحل محل الأميركيين كوسيط نزيه للنزاع التاريخي ويبدو أن واشنطن مستعجلة لعرض خطتها قبل إنزال شركاء آخرين إلى الملعب.
ولكن، متى تعلن الإدارة الأميركية عن تفاصيل خطتها؟
يقول المطلعون إن موعد النشر مرتبط بعدة عوامل سياسية وأمنية. كما هو مرتبط بقدرة محمود عباس على تحمل أعباء المرحلة الصعبة المقبلة. وتتمثل صعوبتها في السيطرة على الرجال والنساء والأطفال الذين احتفلوا بالذكرى الـ42 ليوم الأرض.
وهو يوم إحياء الذكرى السنوية، التي بدأت في الصباح الباكر من يوم الجمعة السابق بمسيرات إلى أضرحة الشهداء والنصب التذكارية على طول الحدود المتاخمة لجدار الفصل.
وبسبب مخاوف إسرائيل من اندفاع الجموع الفلسطينية إلى الداخل، أطلق جيش العدو النار بشكل عشوائي، الأمر الذي أدى إلى قتل 19 فلسطينياً وجرح أكثر من 1200. وقد رفع بعض الشبان صور المجاهدة الصبية عهد التميمي كشعار للمرحلة المقبلة، وكمؤشر على إعلان «يوم الأرض» أرضاً فلسطينية بامتياز.
ومن المظاهر اللافتة في طليعة إحدى المسيرات، ارتفاع صوت أحمد الحجار وهو يلوح بمفتاح منزله القديم، الذي حمله معه يوم طُرِد من أرضه في قرية «المجدل» سنة 1948.
ولأحمد وأمثاله كتب الدكتور وليد الخالدي كتابه الخالد: «كي لا ننسى».