على رغم درجة السرية العالية التي أُحيط بها مضمون ما يسمى صفقة القرن، إلا أن بعض معالم تلك الصفقة بدأ يطفو على سطح المشهد السياسي العربي والدولي. ومن أهم تلك المعالم: قبول الفلسطينيين بأبي ديس عاصمة لهم بدلاً من القدس الشرقية، وقوع مدينة القدس القديمة بالكامل تحت سيطرة إسرائيل، الانسحاب من الضفة الغربية باستثناء الكتل الاستيطانية الثلاث؛ آريئيل، غوشعتصيون، ومعاليه أدوميم، لا مفاوضات حول حق العودة، الدولة الفلسطينية من دون جيش ولا أسلحة ثقيلة، خطة اقتصادية لإعادة إعمار غزة، وقوع وادي الأردن تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة، انتهاء الولاية الهاشمية على المقدسات والأوقاف في القدس.
الصفقة التي يعمل على ترويجها غاريد كوشنر، صهر الرئيس الأميركي دونالد ترامب، تصطدم بمواقف الفلسطينيين ومصر والأردن. الفلسطينيون رسمياً وشعبياً غير مستعدين للتنازل. ومصر تؤكد أن القدس الشرقية هي عاصمة دولة فلسطين. ويبدو أن الصفقة الأميركية لا تجد قبولاً مصرياً، خصوصاً أن مصر أعلنت دعمها فقط للجهود والمبادرات التي تهدف إلى التوصل إلى اتفاق شامل وعادل يعتمد على أساس قيام دولتين على حدود الرابع من حزيران (يونيو) 1967، وأن القدس الشرقية هي عاصمة الدولة الفلسطينية. الموقف المصري الرافض التخلي عن القدس الشرقية يتوافق مع انزعاج الأردن شعبياً ورسمياً والعاهل الأردني الملك عبدالله الثاني من الصفقة، بخاصة في ما يتعلق بمستقبل القدس الشرقية، وكذلك إنهاء الرعاية الأردنية التاريخية على الأماكن المقدسة، واستمرار سيطرة إسرائيل على وادي الأردن.
مصادر عربية تشير أيضاً إلى ما وصفته بـتباين وجهات النظر بين قيادات خليجية حول الصفقة بخاصة في ما يتعلق بمشاركة دولة قطر في البرنامج التمويلي الطموح لإعادة إعمار قطاع غزة، رغم اهتمام قيادات خليجية بما تشير إليه الصفقة من مواجهات مستقبلية ترمي إلى الحد من التوسع الإيراني في الحدود الشرقية العربية. لا شك في أن هناك الكثير من المغالطات التي تحيط بما يسمى صفقة القرن، التي يحيط بها أيضاً الكثير من اللغط، ويلفها كثيرٌ من الضباب والغبار والأكاذيب، والتي يحلمُ ويروجُ ويزعمُ من يقفون وراءها أنها ستحقق السلام في الشرق الأوسط.
المغالطة الأولى شكلية ترتبط بالاسم. فالتسمية الأميركية هي ULTIMATE DEAL والتي تعني «الصفقة النهائية»، بينما ما يتم تداوله عربياً هو «صفقة القرن» CENTURY DEAL. وفي إطار هذه الفوضى غير الخلّاقة وذلك الاستخفاف بالقوانين والأعراف، فضلاً عن الغموض الذي يلف الأمر، لماذا لا نعطي أنفسنا ونحن أصحاب القضية، الحق في تسمية إرهاصات تلك الصفقة تسميةً هي أقرب للواقع السياسي الدولي؟ لماذا لا يكون اسمها «صفقة القرن الأميركي»؟ ولست أسميها هكذا على سبيل المبالغة أو الذم، فالعالم اليوم يعيش ويعاني حقيقة مما يمكن أن يطلق عليه قرناً أميركياً. هذا القرن الأميركي الذي لا يقيم وزناً للمواثيق ولا العهود ولا الأعراف الدولية، فهو قرنٌ يبني سياساته الخارجية وفق المصلحة الأميركية الضيقة.
أما ثاني المغالطات التي تُبنى عليها صفقةُ القرن الأميركي، فهي ذلك التجاهلُ الكاملُ وعدم الاحترام المشين لقرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وكذا قرارات مجلس الأمن الدولي التي بلغ عددها منذ عام 1948 نحو 40 قراراً لا تزيد قيمتها عن قيمة الحبر الذي كتبت به. كان القرار رقم 57 الصادر بتاريخ 18 أيلول (سبتمبر) 1948 والذي أعرب فيه مجلس الأمن عن الصدمة العنيفة لقيام وحدة من الإرهابيين الصهاينة باغتيال وسيط الأمم المتحدة في فلسطين الكونت فولك برنادوت هو أول قرارات الادانة الدولية، بينما كان القرار رقم 2334 لعام 2016 بتاريخ 23 كانون الأول (ديسمبر)، الذي حض على وضع نهاية للمستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية هو آخر تلك القرارات. ورغم تلك القرارات الدولية فلا حياة ولا حقوق لا للقضية الفلسطينية، ولا للشعب الفلسطيني.
وثالث المغالطات تتمثل في التجاهل المتعمد لما تم التوقيع عليه من اتفاقيات دولية، ومعاهدات أبرمت بين أطراف عربية وإسرائيل برعاية الجانب الأميركي نفسه خلال السنوات الثلاثين الماضية كاتفاقيات كامب ديفيد، وإتفاقية أوسلو، وإتفاقية وادي عربة. ورابع المغالطات التي بُنيت عليها صفقةُ القرن الأميركي هي غياب الشركاء الدوليين كالاتحاد الأوروبي وروسيا. فهذه الصفقة المزعومة عرابُها جاريد كوشنر الذي ولد في العام 1981 لعائلة يهودية تنتمي إلى الحزب الديموقراطي، وتتمتع بعلاقات خاصة مع إسرائيل، ويقوم والده بأنشطة عقارية واسعة في أراضي فلسطين المحتلة. كما تتمتع عائلته بعلاقات خاصة مع اللجنة الأميركية للشؤون العامة الإسرائيلية المعروفة بـ «إيباك».
هذا الشاب الذي تزوج ابنة ترامب عام 2009 بعد أن اعتنقت الديانة اليهودية، وله منها ثلاثة أبناء، هو مستشار الرئيس الأميركي الذي وضع خطة نقل السفارة الأميركية إلى القدس والاعتراف بها عاصمة لإسرائيل، ويتمتع بترحاب كبير من القيادات السياسية والدينية الاسرائيلية، حيث ينظرون إليه بوصفه حليفاً. يبدو أن واشنطن بدأت تلك الصفقة يوم أن اعترفت في 6 كانون الأول الماضي بالقدس عاصمة لإسرائيل، وتعمدت نقل السفارة من تل أبيب إلى القدس يوم 14 أيار (مايو) الماضي. وهكذا تمضي الولايات المتحدة الأميركية في تنفيذ تلك الصفقة عبر تصفية بنود القضية الفلسطينية بنداً بنداً.
* كاتب مصري