IMLebanon

حضرة «الصليب» و«المصلوب»

 

في الجمعة العظيمة من العام 2009 كتبت تحت عنوان «حضرة المصلوب» لبنان، وفي الجمعة العظيمة من العام 2013 كتبت في هذا الهامش «حضرة الصليب» لبنان… اليوم وعلى عتبة الجمعة العظيمة من العام 2015 المنطقة كلّها تمتدّ صليباً هائلاً وشعوبها معلّقة تتأرجحُ تحت سياط من الملح الدموي شعب مشردٌ هنا ومقتول هناك وقلق هنالك وشعب مهدد هنا ومرهون هناك وخائف هنالك، والنيران عند قدمي الصليب تحرقُ آمالنا وتسلخ ما تبقّى من جَلَدِنا وجلودنا، ستّة أعوام لم يتغيّر فيها شيء، ستة آلاف عام لم يتغير فيها شيء أيضاً، ومبعثرة تساؤلاتنا أمام واقعنا والخلاص الذي نرتجيه، وفي لحظات الخيبة الكبرى واليأس لا نعود نرتجيه…

أيها الوطن ستظل «الجغرافيا» صليبك ولا أفق مفتوح أمامنا سوى البحر ولن نرميك فيه لنرتاح من خريطتنا المحبوسة في قمقم جواراتها اللعينة، وستظل تطاردنا لعنة «القطيع» المتمرد على الراعي وعصاه، وسيظل الراعي مذهولاً كلّما اكتشف استذآب غنمه، ويستغيث كلّما فاجأته «غنمة» وهي تعوي كذئب، وكلما وقعت عيناه على أنيابها المسنونة وهي تنهش لحم أختها في القطيع.. وستظل قطعان «الموارنة» لعنتك أيها المصلوب، وستظل «أنانيتهم» وحبهم لذواتهم، ولعنة «تعبّدهم» لها فقط، فهي إلههم الذي لا يعرفون سواه إلهاً لهم!! وستظل لعنتك «رغباتهم» التي لا يستطيعون إلا السقوط عند قدميها، ساجدين لنيران حلم تصوّره لهم شياطينهم، مزيّنة لهم كرسي الرئاسة الأولى، فيبيع بعضهم وطنه قبل نفسه لكل شارٍ مهما كان الثمن بخساً!!

في حضرتك، كنتُ أظنّك «المصلوب»، فإذا أنت «الصليب»، وإذا نحن المصلوبون عليك قدراً شاء أن تكون وطناً!! فيا حضرة «الصليب» هلا قلتَ لنا متى كنت وطناً؟ ومتى كنتَ موحّداً؟ من زمن ممالكك الفينيقية الخمسة المتناحرة فيما بينها والمتوحدة موقتاً في مواجهة خطرٍ داهم؟! فيا حضرة «الصليب» لبنان، قل لنا متى لم نكن مصلوبين في أرضك منذ ولادتنا، جيلاً بعد جيل بعد جيل؟! قل لنا أي قدرٍ هيَّأك لتكون لنا «صليباً» معكوفاً أو مشطوباً أو مرفوعاً أو مكسوراً أو مهزوماً؟!

ويا حضرة «الصليب» لبنان؛ جيلي سئمَ ويقاوم اليوم إعلان يأسه النهائي منك، ومن قدرتك على أن تكون وطناً ومن قدرتنا أن نكون شعباً؛ هل كثير علينا أن نكون شعباً واحداً؛ فقد أتعبتنا أدوار الماعز والأغنام والحمير والبقر والإبل والحيتان والتماسيح والعصافير والجماهير «الغفورة»!! وما زلنا لا ندري أيّها نحن، وإن كنّا الأقرب إلى «الحمير» في صبرها على حمل أثقالها، وقد نكون الأقرب إلى الماعز؛ يا حضرة «الصليب» لبنان هل تشاهدنا حين «نتطيشر» كالماعز نخرّب وطننا فنأكل شجره أخضره قبل يابسه؟! ويا حضرة «الصليب» لبنان؛ هل نحن أقرب إلى «التماسيح»، جلداً وقلوباً ودموعاً، نفعل بك الأفاعيل ثم نذرف عليك دمع التحسّر والقلق والخوف، ونحن لا نتورع عن سلخ جلدك والتباهي به حقيبة وحذاء وحزاماً؟! أم هل نحن «العصافير» التي تملأ فضاءك بزقزقة الثرثرة، نفرّ من غضن إلى غصن إلى أن يردينا صيادوك بـ»خردقة»؟!

يا حضرة «الصليب» لبنان، إلى متى سنُجرّ مصلوبين مجلودين على «جلجلات» ساحات الأجندات الناصرية والبعثية والفلسطينية والأميركية والروسية والعربية والإيرانية، إلى متى ستبقى فينا دائماً وبالمداورة طائفة ترهنك وترهننا تارة لأجندة عبد الناصر وأخرى لأجندة ياسر عرفات ومرة لأجندة معمر القذافي وأخرى لأجندة حافظ الأسد ووريثه في الحكم الديموقراطي بالانقلاب، ولأجندة الخامنئي وتهيؤاته المهدوية؟! يا حضرة «الصليب» لبنان؛ تعبنا فهلا أنزلتنا قليلاً، هلا توقف هذا المشهد لنستريح قليلاً، وصدقنا سنعود ونفتح ذراعينا لنعلّق عليك من جديد، لأننا نحن المصلوبون «تباً لنا» لو تعلم كم نحبّك!!

ويا «حضرة المصلوب» لبنان، أجمل ما فيك أننا نعرف أنّ قدرنا فيك أن نظل «مرفوعين» على هذا «الصليب» ولا انفكاك لنا عنه، ولا نزول، ولا رتبة دفن، ولا دحرجة حجر.. وأجمل ما فيك يا «حضرة المصلوب» يا وطني، أننا نعي أن قياماتك تتالى، فلا أنت تبقى ميتاً في رقدة أخيرة، ولا أنت تظلّ حياً إلى أبد سرمدي، بل ستظل إلى آخر الدهر تموت وتعود لتفاجئ كل الذين يتمنون موتك بأنك حيّ تنبعث بعد كل نزع ، لأنك «النفس الأخير» في هذا الشرق المظلم ، أنت نقطة الإشعاع ومنارة الحضارة فيه، وجَبَلك جنّة الله الخضراء الآسرة في أرضه كلما استعرت في شرقنا التعيس نيران الجحيم!!