Site icon IMLebanon

أيها اللبنانيّون أفرغوا حقائبكم!

غالباً ما يوصف الطفل الحديث الولادة بـ”الصفحة البيضاء”، لكنه تشبيه خاطئ إلى أبعد الحدود: جميعنا نولد مع حقائب تثقل كواهلنا وتقوّس ظهورنا. أيّ صفحة بيضاء هي تلك، إذا كانت تتضمّن مسبقاً أسماءنا ودلالاتها، جذور عائلاتنا وماضيها، طبقاتنا الاجتماعيّة وسماتها، أوطاننا وتواريخها، طوائفنا وموجباتها، انتماءات أهلنا السياسيّة وعواقبها؟ كثرٌ لا يتكبّدون حتّى عناء إفراغ حقائبهم، فذلك يتطلّب قدراً لا يستهان به من العناء والأسئلة ومحاولات البحث والتقصّي المتعبة. كثرٌ يمضون في حيواتهم من دون أن يغيّروا أيّ شيء في تلك الصفحات التي ورثوها. يخضعون للظروف التي شاءت المصادفات أن ينشأوا فيها، ويقنعون بما أُعطوا.

أنا أيضاً كنتُ هكذا، لردح من الزمن، إلى أن بتّ عاجزة عن حمل حقيبتي وجرجرتها خلفي، لشدة ثقلها وضخامتها.

لا مفرّ من أن نعترف بالواقع: معظم ما يساهم في تربيتنا، معظم ما يحيط بنا ويؤثّر فينا ويقولبنا منذ الصغر، يثبط ميلنا إلى التفكير الفردي. هل يفكّر الإرهابيّون “الأولياء” قبل أن ينفّذوا مذابحهم دفاعًا عن إلههم؟ هل يفكّر الناخبون “الأولياء” قبل أن يدلوا بأصواتهم لزعيم فاسد؟ هل يفكّر الموظّفون “الأولياء” قبل أن يبيعوا منتجات مسمومة للمستهلكين؟ هل يفكّر الأبناء “الأولياء” قبل أن يتبنّوا التقاليد البالية التي يعتبرها أهلهم لا تُمس؟

غالبيتنا، نحن اللبنانيين، نتشبّث بحقائبنا الجاهزة: نحكم على الآخرين انطلاقًا ممّا ألصقه بهم المجتمع والناس من تصنيفات. نصدّق في شكل أوتوماتيكي بدل أن نشكّك أو نستخدم المنطق أو نوظّف حسّنا النقدي. نلتحق بعماء بزعمائنا بدل أن نستعمل قدرتنا على الاختيار. نوافق وننصاع بدل أن نسأل ونسائل ونصل إلى استنتاج. نفضّل الانتماء إلى المجموعة بدل أن نجرؤ على الاختلاف. نتبع غرائزنا بدل عقولنا، وننظّر بدل أن نطبّق، وننساق بدل أن نمشي طريقنا، و”نشتري” بالجملة بدل المفرّق، وهكذا.

جميعنا نرث حقائب ضخمة، أجل، ولا مفرّ من أن نعمل على إفراغها وفرز محتوياتها على مرّ الوقت وترسّخ النضج. لا مفرّ من أن نحاول التخلّص من الزوائد غير المجدية، من كلّ ما هو عبثي وعارض ومؤذٍ. لا مفرّ من أن ندأب على محو الكلمات الموروثة، المحفورة حفراً، على تلك الصفحة “البيضاء” المزعومة، ونحاول استبدالها بكلماتنا نحن. غالباً تبدو المهمة مستحيلة: كيف لنا أن نفرّق بين المُعطى والمُختار، بين المفروض والمنتقى، بين المتجذّر والمرغوب، بين المرغوب سابقاً والمرغوب اليوم؟ إنّها عمليّة لامتناهية ومضنية، وإغراء الاستسلام قويّ للغاية. ولكن من الحيوي ألا نستسلم.

ماذا تنتظرون أيها اللبنانيون؟ أفرغوا حقائبكم!