Site icon IMLebanon

أيها السياسي اللبناني كيف تحتسبها بعد الدخول الروسي؟ 

ماذا لو وضع المراقب نفسه مكان أحد السياسيين اللبنانيين المحترفين من كل الطائفيات والانتماءات والأحقاد والمصالح وحاول أن يتأمّل المنطقة بعد “الإنزال” الروسي الاستراتيجي في سوريا وانعكاسه على لبنان؟ هنا مشروع “خارطة طريق” للأسئلة… وجواب واحد.

1- تبعد القاعدة العسكرية الروسية الأولى في طرطوس بضعةَ كيلومتراتٍ عن الحدود السورية مع لبنان. وما كان يُسمّى مرفأ تسهيلات لبعض السفن الحربية الروسية أصبح الآن قاعدة عسكرية كاملة المواصفات بحكم طبيعة الدخول الروسي الجوي الكثيف على الحرب في سوريا. لقد أصبح الشاطئ السوري حتى اللاذقية قواعد عسكرية لدولة كبيرة لم تدخل في حرب جوية مباشرة مطلقا في العالم العربي منذ كانت كغيرها من الدول الكبيرة في القرن التاسع عشر ترسل سفنها الحربية عندما يلزم الأمر منها إنذار الدولة العثمانية في إحدى نقاط ضعفها المتوسطية الأكثر ضعفا أي على الشاطئ السوري ومنها الجزء الذي أصبح يُسمّى اللبناني. لكنْ حتى في ذروة العلاقات مع مصر الناصرية كان الدعم بالخبراء وليس مباشرا بينما نحن اليوم أمام حرب روسية رسمية وانخراط لا يقبل الالتباس.

2- يحدث شيء لا سابقة له في العالم العربي وفي العقدين الأخيرين يبدو وكأنه، بل هو كذلك، امتدادٌ لحرب جورجيا التي اقتطعت إقليمين من جورجيا عام 2008 وإقليماً من أوكرانيا فضلاً عن الضم النهائي لشبه جزيرة القرم عام 2014 ولربما هو، من حيث طبيعة الخصم الأصولي الذي حدّدتهُ موسكو، شيشان جديدة كما حصل في تلك الجمهورية الروسية التابعة للاتحاد الروسي في أواخر تسعينات القرن المنصرم والتي كان نجاح الجيش الروسي فيها منطلقاً لصعود ظاهرة فلاديمير بوتين الأمنية السياسية العسكرية القائمة على خلفية إعادة استنفار الوطنيّة الروسية الجريحة يومها.

عليكَ أن تحتسب إذن أنه قرار لا عودة عنه بالنسبة للرئيس بوتين. ليس لا عودة لقواته إلى بلاده، فليس هناك فعلاً تاريخ من الاحتلال الروسي في العالم العربي وإنما الاحتلال الروسي كتجربة عرفها الأتراك أساساً والإيرانيون جزئياً فقط في العالم المسلم حتى الحرب العالمية الأولى ولم يعرفها العرب.

إذاً هي لعبة استراتيجية كبيرة في “سوريا قلب العالم” كما سبق لي أن وصفتها منذ السنة الثانية للحرب فيها. وكما سبق أن جادلتُ طويلاً بأن الدور السياسي والأمني الروسي منذ أواخر 2011 في سوريا هو قرار استراتيجي وليس تكتيكيا كما كانت تتوهّم المعارضة المدنية العلمانية السورية وأصدقاؤها يومها.

3- هل هذا “الإنزال” والتمركز العسكريان الروسيان في سوريا سينتهيان بنوع من شيشان جديدة أم بأفغانستان جديدة؟ لأن الجواب الواقعي سيحدِّد ما إذا كان هذا القرار سيعني نفوذا روسيا من نوع جديد في المشرق وبالتالي في السياسة اللبنانية يحمل معه لا وزن الدولة الكبيرة روسيا فحسب بل يحمل معه وزن المعادلة السورية الجديدة التي ستظل مصيرية بالنسبة لنا في لبنان، موالاة أو معارضة، طوائف وطائفيات. ذلك شبيه نسبيا، مع اختلاف الظروف، بما حمله عبد الناصر “اللبناني” لا من وزن مصر بل من وزن كونه حاكما لسوريا.

4- قبل ذلك عليكَ أن تجيب على تساؤل لا تستقيم من دونه كل الحسابات وهذا يصبح متعلِّقاً بالمنطقة ككل:

هل الهجوم الروسي الكثيف في سوريا هو الأساس أم الاتفاق الإيراني الأميركي كمعيار لنقطة الانعطاف العميقة الجديدة؟

أميل كمراقب إلى القول إن الاتفاق الأميركي الإيراني هو نقطة الانعطاف، وإن الهجوم الروسي في سوريا ما كان يمكن أن يحصل كحركة، سواءٌ كانت “كش ملك” أم حركة أساسية، لولا الاتفاق الأميركي الإيراني النووي الموقَّع من خمس دول كبرى أخرى أيضا بينها روسيا.

5- الموضوع المرتبط على ضوء كل ذلك: هل هذا الدخول الروسي نابعٌ، بعيدا عن المظاهر، من مناخ توافقي أميركي إيراني روسي أم هو تصعيدٌ في الصراع الدولي؟ مما يعني أن هذا الدخول في الحالة الأولى سيعزّز فرص طبخ تدريجي للحل السوري على المدى الأبعد. الدور الروسي التصعيدي عسكرياً يمكن أن يكون أكبر علامة حاليا على بدء رقصة إنهاء الحرب في آنٍ معاً.

6- روسيا تقود الحرب السورية في زمن بدأ فيه الانسحاب الإيراني من الصراع العربي الإسرائيلي باعتبار ذلك أبرز مستلزمات “منطق” الاتفاق النووي في جانبه الجيوبوليتيكي مما يعني، ومما يفسِّر في آنٍ معاً، الهدوء الإسرائيلي حيال الدخول الروسي العسكري. لا تعكس الصحافة الإسرائيلية منذ بدأت الهجمات الروسية حالة طوارئ رغم أنها تطرح مخاوف النخبة الإسرائيلية لكنْ دون استنفار، ولا يكفي تفسير ذلك بالضمانات الروسية لإسرائيل على أهميتها الأكيدة وإنما بما يمكن أن نسمّيه “الضمانات الموضوعية” التي أوجدها الاتفاق النووي.

7- في المدى العربي هل ستلعب روسيا دور حامية الأقليات، الدور الذي لعبته فرنسا طويلاً وتخلّت عنه منذ الرئيس شارل ديغول لصالح سياسة عربية أكثرويّة هي دائما في الدرجة الثانية وحتى الثالثة وراء قيادتها البريطانية قديما والأميركية حديثا وحتى اليوم؟ هل ستكون حامية الأقليات المستجدة هذه والمتحالفة مع إيران في موقع عداء في نظر الأكثرية السنية العربية، أم ستكون في ظل لقاء المصالح العميق والحيوي بينها وبين النظام المصري على مواجهة الإسلام الأصولي في موقع التحالف مع “الاعتدال” السني بقيادة مصر ضد التطرف القاعدي والداعشي ومن وراءه؟

8- السياسي اللبناني الذي قضى حياته السياسية مواليا ومعارضا، منذ القرن التاسع عشر في “المتصرفيّة” بين قناصل الدول الكبرى وفي “لبنان الكبير” بين السفراء ومنذ الثورة المصرية بين أجهزة المخابرات من مورفي الأول ( روبرت) إلى عبد الحميد السراج إلى غازي كنعان، ستحضر لديه طبعاً الهواجس الطائفية التي يتقن توظيفها ويخاف منها في آن معاً، وسيسأل ما إذا كان هدير الطائرات الروسية سيعزز الانقسام الداخلي اللبناني وفي الوقت ذاته الحاجة إلى إبقاء لبنان “سويسرا خدمات حروب المنطقة” ولا سيما الحرب السورية. فهذا الانقسام ليس خطيراً إذا لم تكن له تغطية خارجية. وهو ليس مقرِّراً إذا عاكَسَتْه إرادة خارجية. وهل التوازن السياسي الطائفي اللبناني سيشهد تغييرات أو تعديلات على المدى الأبعد بينما هذا الهدير سيُسمَع من الآن فصاعدا في المناطق اللبنانية الملاصقة لأولى القواعد العسكرية الروسية الممتدة على الشاطئ السوري الأقصر قليلاً بعدد الكيلومترات من الشاطئ اللبناني؟

يمكن أن يضيع السياسي اللبناني في عدم قدرته وقدرتنا جميعاً على الإجابة على كل هذه الأسئلة التي باتت تشغل دولا كبيرة في المنطقة بل العالم، لكنْ عليه أن لا يخطئ في حساب أساسي وهو أن الاتفاق النووي هو قطعاً بداية رسم وضع استراتيجي جديد للمنطقة نرجو أن تكون دماء الضحايا التي ستسيل بعده أقل من دماء الضحايا التي سالت قبله.

أيها السياسي اللبناني المحترف: لا أحسدك على قلقك في هذه المرحلة البادئة إذن الغامضة، خصوصا أن المتاهة “الأنطاكية” الجديدة لن تستلزم منك إعادة التموضع والانتشار في الإقليم فقط وإنما أيضا بين القوى اللبنانية وحتى داخل حزبك وربما داخل حيّك أو قريتك… وحتى بيتك!