يكاد الحدث الاجتماعي أن يغطي هذه المرّة، وبصورة إستثنائية بامتياز، على أي حدث داخلي آخر، بل هو قد غطى، قولا وفعلا. وفاة الراحلة الفنانة صباح ومن ثم وفاة الشاعر سعيد عقل. لقد بدّل الراحلان في مقاييس الأحداث فطغى خبر الموت الهادئ، على فراش من السلام والطمأنينة والراحة، على ذكر جملة من الأخبار الهامة الأخرى: غطى على فضائح الأغذية الفاسدة والمياه الملغومة بالباكتيريا والميكروبات، وغطى على سرقات الدوائر العقارية وصناعة وتجارة الممنوعات، وقبلهما وبعدهما، غطى خبر الوفاة والأثر الغريب العجيب الذي تركه في الناس، على أخبار السياسة والسياسيين، والزعماء والقادة وأعيان المدن ووجوه المجتمع، وعلى اقتحامات جديدة لأقارب الجنود المخطوفين للساحات والشوارع، وعلى أخبار التهديد والوعيد بمزيد من عمليات الذبح والنحر، وعموما: غطى حدث وفاة الراحلة صباح ومن ثم خبر وفاة الشاعر سعيد عقل على كل حدث إجتماعي وسياسي وأمني واقتصادي، واستولى هذا الحدث ولو لبضعة أيام، على اهتمامات اللبنانيين، وعلى عواطفهم وذكرياتهم المتمثلة خاصة، بتلك السيدة التي انطلقت ذات يوم، من تلك القرية اللبنانية «بدادون»، ولبثت في عداد المواهب المتواضعة، إلى أن تطورت واكتسبت بكدّها وجهدها وصمودها أمام العوائق والصعاب شهرة واسعة جعلت منها نجمة من نجوم السينما المصرية التي اكتسحت في ماض جميل كل أحلام الصغار والكبار، فتلألأت نجومها وممثلوها وأصبح كبار الفنانيين البارزين في ساحاتها يعاملون كالملوك في حقلهم المتلألئ المليء بالحكايا والأغنيات والرؤى والأحلام.
صباح… طاولها الموت… هي سنة الحياة والمماة، وغابت معها ضحكاتها وبسماتها ووجهها الصبوح، وصمدت بديلا عنها، أغنياتها التي طاولت كل الأسماع، وأفلامها التي وصلت حكاياها إلى كل النفوس والقلوب، وعرفتها بعلبك ومسارح العاصمة نجمة متلألئة مستمرة في الإضاءة والإشعاع والعطاء.
في هذه الأثناء، إستمرت الحياة العامة في البلاد… وكأنها مستمرة تحت الرماد، ومتجاهلة لالتهاب الأوضاع اللبنانية في كل حقل وصعيد. صباح، ومن بعدها بيوم أو يومين، الشاعر الكبير سعيد عقل، المستولي الأول على مشاعر اللبنانيين ونزعتهم نحو دنيا الشعر والصور المشعة والتألق الأدبي، فكان الشاعر اللبناني الأول، الذي اغرق دنيا الأدب والشعر، بجملة من الدواوين والقصائد والكتابات والآراء المتميزة بحداثتها وغرابتها عن المألوف، وتقاسم الراحلان الكبيران بموتهما المتقارب إهتمام اللبنانيين، كما تقاسما تلك الأعجوبة التي لا تتكرر، والمتمثلة في ما أحدثته وعن سابق تصور وتصميم من غشاوات على عيونهم وآذانهم واهتماماتهم السياسية، لقد نسوا السياسة بل تجاهلوها وأنكروا شطحاتها وفضائحها وآثارها المؤذية على صفاء وجودهم وحياتهم واستقرار بلادهم، لأنها لم تجلب لهم الاّ الإضطراب والخراب، أخذوا لأنفسهم «فرصة» من عذاب الأيام الحالكة التي تواكبهم غماماتها السود منذ عقود من السنوات المأساوية القاسية، فكانت تظللهم كيفما اتجهوا ومهما حاولوا قلب الصفحات المعتمة إلى صفحات أكثر إشراقا، فاستبدلوا وجوه السياسيين «والناشطين الاجتماعيين» بوجوه الفنانين والشعراء، ما إن طالبتهم صباح بألا يحزنوا على رحيلها وألا يظهروا معالم التأثر على ملامح وجوههم ومكنونات قلوبهم، وأن يستبدلوا اللباس الأسود، بلباس آخر ينم قدر المستطاع عن البهجة والفرح وحب الحياة، ما إن أطلقت صباح هذا الشعار، حتى استظرفه الناس وتقبلوه وسعوا من أجله، بل ونفذوه فعلا في موكب الجنازة وفي ساحة الكنيسة، وسط مراسم الموت، فانطلقت الموسيقى ورقصت الفرق التي سبق أن رافقت صباح في حفلاتها، وصدحت الأغاني… طاردة من ساحة الموت كل الكلمات والمراثي الخاصة والعامة، ولو لم يكن غبطة البطريرك هناك يرأس مراسم الدفن والموت وينعى الراحلة الكبيرة بكل أغانيها وتاريخها الحافل بالإنجازات الفنية و بالبسمات والضحكات، الذي يخفي آثار الأيام الصعبة التي عاشتها تلك المرأة المقدامة، فصارعتها صراع الرجال المقاتلين، ولم يقض عليها إلا موت طبيعي هادئ على سرير صدحت من حوله الموسيقى كأن ما يحصل هو عملية ولادة لطفل صبوح جديد، وليس مناسبة موت تستدعي الدموع والتأثر.
وكانت هذه الجنازة الغريبة العجيبة في تناقضاتها وفي نشرها للإهتمام والمواكبة العاطفية في إطار وطني شامل، إعلانا صارخا لا تفوت معانيه ومغازيه على النبهاء: هذا الشعب المكابد المعاني منذ عقود عديدة… يريد الحياة… يريدها إلى درجة بات فيه من خلال موت الراحلة صباح، حياة أشرق وأبرق من الألم والمعاناة والأفق المسدود التي يعيش، بعد أن طفحت حياته كيلا بمشاكلها ومصاعبها الوطنية والمعيشية القاسية التي تكاد أن تودي بوجود الوطن والدولة، فها هم الساسة عاجزون عن انتخاب رئيس للجمهورية… يلملم ما تبقى من مظاهر ومعالم الدولة والحكم، وباتوا يرون بأم العين والإحساس، إنشقاق الدولة إلى دولتين، واحدة صغرى وأخرى كبرى، واحدة شرعية وأخرى ميليشياوية. وباتوا يرون في انقسام الشعب إلى شعوب، يأكل بعضها بعضا، ويتحكم «المواطن» الفاجر بالمواطن التاجر ولواحقه من أبناء هذا الوطن المنكوب، أمرا مريعا ومرعبا يحاول أن يتحاشاه وأن يتناساه، فلم يجدوا أفضل لتحقيق هذا الغاية من جنازة الموت، جنازة الكبيرين صباح وسعيد عقل، تخفي عن عيونهم، مشهد موت مستمر، يكاد أن يلتهم كل شيء في طريقه، متمثلا بمشروعي جنازتين يبدو أنهما باتا قيد الإعداد، جنازة الكبيرين الآخرين (إن لم نتداركهما بالإسعاف الوطني السريع) الوطن اللبناني، والدولة اللبنانية.
وعن سابق تصور وتصميم، يطيل المواطن اللبناني في عمر ومراسم التعازي المنقلبة بقدرة قادر إلى مظاهر بهجة وفرح، ولديه إحساس عميق بأن وطنا بلا رئيس… ولا رأس، هو وطن مهدد بكل أنواع المخاطر وفي طليعتها مخاطر التفتت والذوبان.
صباح… سعيد عقل، وأمثالهما كثيرون، قضوا نحبهم وآخرون… مسجلون على قائمة الانتظار.
وننتظر جميعاً معهم كل أنواع المنعشات والمنشطات والأدوية السحرية القادمة الينا من أي مكان من الداخل او الخارج، تعيد إلى هذا الوطن المنكوب… حياته الكاملة وغير المنقوصة بأي عيب من عيوب هذه الأيام الفادحة، آنذاك نعيش بحق وصدق على أنغام الراحلة صباح وقصائد سعيد عقل، في حياة مستمرة لوطن لا يشيب ولا يغيب.