ليس الموت واحداً في هذا العالم. لكنه في لبنان، كما في غيره من بلدان الجنوب، يتميز باسترخاص فائق لحياة الفقراء. وإذا كان صحيحاً أن الاسترخاص اللبناني لحياة الفقراء قديم، وعمره من عمر «النظام»، إلا أن الجديد هو في ضعف «الحساسية العامة» المعنية بدوزنة الانتظام العام، والمعبّر عنه بتخلّيها المريع ليس عن مسؤولياتها الأخلاقية الواجبة تجاه «الجرائم» المماثلة بل وصمتها الموثق عما هو أقل منها. خصوصاً أن البداهة تفرض عليها أن تكون أول المعنيين وصاحبة الحضور الأقوى والصوت الأعلى إن لم يكن لمنع الجرائم المتفلتة فلا أقل من السعي إلى الإضاءة عليها وكشف مخاطرها. ومن غير أن نتغافل عن مبلغ اللامبالاة الرسمية ومسؤوليتها المؤكدة عن الفقدان المتكرر والمجاني للأرواح، فإن الاسترخاص المخزي هذا لا تعوض عنه إدانات الرسميين البلاستيكية، ولا تخفف من فداحته عروض ومسرحيات التعاطف اللفظي مع ضحاياه.
إن «خسران» الفقراء لحقهم الطبيعي والبديهي في عيش الحياة اللائقة بالبشر، هو في الغالب من صنع الأغنياء. وهو، أيضاً في وجه من وجوهه البشعة إضافة كمية ونوعية وحتى زمنية على حياة الأغنياء. فهؤلاء لا يكتفون بمنع الفقراء من الوصول إلى أسباب الحياة الدنيا بل يدفعون بهم، وعلى مدار الساعة، نحو الموت، أي موت. فالمهم الذي لا جدال فيه هو استمرار «تهاطل» الأرباح.
فالحرب وما ينتج منها من مضاعفات والتي أكثر ما تصيب حياة الفقراء، صناعة، بل وصناعة مضمونة الأرباح. ونشر الأوبئة والأمراض، على نحو ما تفعل مراكز «البحث العلمي» الغربي ومختبراته العسكرية، صناعة تدر المليارات. والإفقار الممنهج والمدروس عبر منع التنمية وتعميم الجهل والأمية وفبركة الاضطرابات وتسعير المنازعات وزرع الأحقاد وإحياء الضغائن وبعثها، صناعة غربية ورأسمالية كاملة الأركان فضلاً عما تتيحه أو تسمح به من ادعاء التفوق ومن ثم التظاهر بامتلاكه والتفرد به. والتضليل، وتسميم العقول والقلوب الذي يتولاه الإعلام المهيمن كما التابع، صناعة… وموارد هذه الصناعات وغيرها تصب أولاً وآخراً في جيوب الأغنياء في واشنطن ولندن وباريس وبرلين… وحسابات نخبها المتضخمة بأرقام لا سقف لها ولا حدود.
أغنياء العالم، كما أغنياؤنا، والذين يملكون ما لا يجب أن يُملك، ويستحوذون على ما لا يجب أن يُستحوذ عليه، لا يعنيهم من حياة الفقراء إلا فائض العمل وقوته وما ينجم عنه من ثروة. ولأن الأمر كذلك فهم من يدفع بالفقراء إلى الموت بأنواعه. فمن لم يمت بالحرب مات بالمرض، ومن لم يمت بالمرض مات من الفقر، ومن لم يمت من الفقر مات بالمخدرات، ومن لم يمت بالمخدرات مات من تفشي الجريمة… وهذه كلها من أدوات السلطة الغربية القابضة على أرواح سكان المعمورة. أما التشدق الليبرالي والديموقراطي اليومي بالحريات وحقوق الإنسان، وزجليات الحق الإنساني المكرس وأهازيجه، وأولوية هذا الحق في العيش الحر والكريم، فهو من باب التعمية الإضافية على الجريمة الموقوفة على السياسات المهيمنة وأخلاقياتها المجرمة حصراً. ولنا في الحرب الغربية الشاملة على روسيا مثالاً على كذب الغرب ونفاقه.
إن كل «ثري» في هذا العالم (وفي لبنان الذي تمتنع فيه أسباب الثروة ومصادرها) هو في الواقع إما لص وإما مجرم. لكن كثيراً ما يتيسر للشطار من بينهم الجمع بين الجريمتين. فالثروة، بمعناها الرائج والمعمول به، لا تتأتى إلا من الأعمال المنافية للعمل الحقيقي، أو المستغلة له. والثري هو كل من يملك أضعاف أضعاف حاجاته. ومن يملك هذه الأضعاف (الفوربسية) هو بلا ريب لص استولى على ما ليس له، وهو في الآنِ نفسه قاتل لاستحواذه الذي لا تبرير له على حصص الآخرين من الثروة التي وفرتها الطبيعة ويتولى بالقتل والترويع والإخضاع والتضليل… الاستئثار بها بعد حجبها عنهم.
وفي الأثناء، وربما من دون التوقف عند طبيعة الجريمة الجديدة وعدد ضحاياها، سيتابع من توقف من اللبنانيين، وهم قلائل، ويكادون ينحصرون بأهل الضحايا وأقاربهم المباشرين، استئناف ما درجوا عليه من يوميات البلاهة والتفاهة والعجز.
وفي الأثناء، أيضاً، وبالتزامن مع ارتفاع أصوات التفجع الكاذب، وتحت ستاره، وقبل الانتهاء من عمليات استعادة الجثامين، سيستأنف رياض سلامة – هو لم يتوقف أصلاً – ورعاته من أصحاب المناصب والمواقع المالية والدينية والإعلامية مسلسل سرقاتهم الفاضح والوقح. وسيتابع المدعو سليم صفير يعاونه «المتطاوس» المدعو إبراهيم كنعان، مع «لفيف» من المرابين والحواة يتقدمهم الأخوان جورج ومارسيل غانم، بالأصالة عن نفسهم، وبالنيابة عن أسيادهم الإقليميين والدوليين، مهمة مطاردة لقمة الفقراء وانتزاعها من أفواههم، وإفقار من لا يزال يكابر قبل تسليمه بعجزه عن رد الهجمة المنسقة مع أركان المحفل القضائي المعروف، أو دفعهم نحو المغامرات القاتلة من نوع المغامرة الأخيرة التي أزهقت أرواح ما لا يقل عن تسعين بشرياً.
وفي الأثناء وبعدها، سيسمع اللبنانيون كثيراً عن مباشرة الأجهزة الأمنية مهمات البحث والتحري ونجاحها في إلقاء القبض على المتسببين بالجريمة، وهم، في العادة، وبحسب التجارب، مجرد أدوات مجهرية وكومبارس ينفذ ما يؤمر أو يكلف به، في حين أن تجار الموت الفعليين وصانعيه الكبار من أصحاب الدولة والمعالي والسعادة والنيافة والسماحة… وأصدقاءهم وزملاءهم سيتابعون العمل على جدولة المزيد والمزيد من رحلات الموت المشابهة.
إنها مسؤوليتنا جميعنا – ولا بريء – وجميعنا هنا لا علاقة لها بالتعميم الغبي والخبيث، الذي راج مع أكذوبة «كلن يعني كلن» التشرينية والتي قُصد منها المزيد والمزيد من التجهيل. بل أنه تعميم واضح ومباشر ويعني تعيين المسؤولين كل بحسب ما يمثل ومن يمثل، وأول هؤلاء المسؤولين هم أهل السلطة التي لا تقتصر على أصحاب المناصب الرسمية، بل تشمل أركان الاجتماع اللبناني القائم بكل فئاته وقطاعاته ومستوياته الموالية والمعارضة.
ويبقى السؤال هنا، ماذا ينتظر اللبنانيون لينقضّوا على المجرمين الحقيقيين. وماذا ينتظر أهل طرابلس وعكار وبقية الأطراف حتى يثأروا من أصحاب المال والسلطة وأولهم ابن الفيحاء النجيب. وماذا ينتظر فقراء لبنان لاجتياح، نعم اجتياح، القصور ومراكز السلطة السياسية والدينية والثقافية والإعلامية.
إن المسؤولية عامة وشاملة. لكن، هناك مسؤول أول. وأولهم هو النظام السياسي اللبناني التافه وهياكله الهرمة. والنظام يشمل إلى السلطات السياسية والاقتصادية والعسكرية… المذكورة آنفاً، منظومة المفاهيم والقيم والعادات والأعراف البالية التي ترعى الاجتماع اللبناني المعتلّ وتحميه.
ثلاث وتسعون ضحية يضافون إلى من سبقهم، ومن سبق من سبقهم ويسجلون في حساب النظام اللبناني وسجله الأسود. هذا النظام الذي لا يملك غير ارتكاب الجرائم ومفاقمة أعداد ضحاياه.
وغداً أو بعده، وقبل الانتهاء من مواراة الأهل لضحاياهم، سينسى اللبنانيون هذه الجريمة الإضافية ويتلهون عنها وعن غيرها بما أدمنوا عليه من تفاهات «إعجازية» لا محل لها في الوجود الحقيقي.
وعليه، يطرح السؤال نفسه: هل بلغنا القعر؟ والجواب هو لا. والأرجح أن دون هذا القعر المرتجى أهوالاً وأهوالاً. لكن الأكيد أننا نعيش نوعاً من أنواع الانحطاط الموصوف. ولعل أبلغ أدلة هذا الانحطاط وليس آخرها ما عبرت عنه شبه الحملة والتعليقات البذيئة والسفيهة التي طاولت المثقف أحمد بيضون لتسجيله سؤالاً مشروعاً عن حقيقة «إبداع» فرقة «المياس»، وتحفّظه الشخصي على المبالغة التي وسمت الاحتفاء بما قدمته من «إبهار ضوئي» لا شك فيه، لكنه خلا من بقية العناصر وأولها الرقص بمعناه الفني والإبداعي.