تلامس الأنباء اليوميّة المتلاحقة عن “قوارب الموت” التراجيديا الاجتماعيّة بكل ما تنطوي عليه من معانٍ. أن يصل الأمر بأي مواطن، من لبنان أو المنطقة العربيّة أو أي موقع آخر حول الكرة الأرضيّة بأن يقفز إلى قاربٍ غير مؤهل لعبور البحار والمحيطات وهو يدرك ذلك سلفاً، فهو الانتحار إنما بطريقة غير تقليديّة، معوّلاً من خلالها على نجاة مرتجاة ولو بالبصيص من الأمل.
لطالما قرأنا عن قوارب الموت التي “إزدهرت” التجارة بها في خضّم الحرب السوريّة التي حوّلها النظام من إنتفاضة سلميّة شعبيّة إلى دائرة العنف والقتل واستخدم فيها كل الوسائل المتاحة والمتوفرة أمامه من دون رادع، فركب السوريون البائسون تلك القوارب. منهم من وصل إلى شواطئ تركيا واليونان وأوروبا، ومنهم من ابتلعهم البحر من دون أن يقتفى لهم أثر أو حتى تدفن جثثهم.
ولطالما هاجر اللبنانيون إلى كل أصقاع الأرض حتى باتت أعدادهم في الخارج أضعاف أعدادهم في الداخل، والقسم الأكبر منهم يتحسّر على اضطراره لترك وطنه بحثاً عن الرزق في بلدان الاغتراب، وبقيت الأعين المغرورقة بالدموع والمجبولة بأحاسيس الألم والأمل تراقب لبنان من بعيد وتتحسر لسقطاته المتتالية، مرة تحت الاحتلال ومرة تحت الوصاية ومرة تحت التعثر الاقتصادي ومرة تحت طغيان ثقافة الفساد والافساد. ومع كل ذلك، ساهموا في صموده وصمود أهلهم في لبنان آملين أن تتغيّر الأحوال يوماً ما، ولم يأتِ هذا اليوم وطال الانتظار.
ولكن أن يرمي بعض اللبنانيين أنفسهم في تلك القوارب المطاطيّة الصغيرة مدركين سلفاً مخاطرها وعدم تمتّعها بالحد الأدنى من شروط السلامة العامة، فضلاً عن تحميلها بما يفوق طاقتها الاستيعابيّة ما يعكس جشع تجار الموت الذين ينظمون هذه الرحلات المشبوهة، فثمة علامات استفهام تحوم حول كل ذلك وتتطلب إجاباتٍ وإيضاحات.
أين الأجهزة البحريّة الرسميّة اللبنانيّة؟ أين خفر السواحل؟ كيف تبحر هذه القوارب إلى خارج المياه الاقليميّة اللبنانيّة من دون أن يلحظها أحد؟ أم ثمّة تواطؤ ما في مكانٍ ما؟ هل من تحرّك قضائي يفضي إلى نتيجة ما ولو لمرّة واحدة في لبنان؟ هل يمكن للقضاء أن يكسر القاعدة السائدة ويطلع الرأي العام على ما تتوصل إليه التحقيقات؟ إنما بمعزل عن كل “تدابير الحد الأدنى” الغائبة تماماً من قبل “الدولة المرتجاة” (منذ ما لا يقل عن مئة سنة)، ثمّة ما هو أخطر من كل ذلك، على فداحة هذا الأمر؛ وهو ما يتصل بسقوط المنظومة الأخلاقيّة بالكامل في لبنان وانهيار كل مكوناتها لا سيّما عند بعض الأطراف السياسيّة المتحكمة بمفاصل القرار الداخلي، والتي لا تكترث سوى إلى حصصها ومواقعها في السلطة من دون أن تشبع أو تكترث للهيكل المتداعي.
إنها شراهة لا تنتهي! إنه جوع للسلطة لا ينتهي! من الرئاسة الأولى إلى سائر المواقع في الدولة! لا يهم إذا كانت الدولة تنهار، المهم أن المواقع فيها محفوظة، و”الحقوق” فيها محصّلة! المهم أن الإقامة في بعبدا مريحة على المقاعد الوثيرة وأن مكيّفات الهواء منعشة ولو كانت الحرائق والنيران في الخارج مندلعة!
السياسة أخلاق قبل كل شيء! صحيحٌ أنها فن الممكن، ولكن من قال إنه من غير المستطاع جعل الممكن أخلاقيّاً؟ لماذا هناك من يصّر على جعل السياسة والأخلاق على طرفي نقيض دائماً؟
الجثث ترتطم على الشواطئ اللبنانيّة، ولكن تواصل بعض القوى السياسيّة عملها كالمعتاد! لا أخلاق ولا من يحزنون! وأنتم حتماً إلى “جهنم” ذاهبون!