طرق الفقر المدقع أبواب اللّبنانيين، وحلّت الأزمة التي يعيشها لبنان ضيفة ثقيلة داخل البيوت، وساهم تلاعب سعر الصرف، وإنخفاض فرص العمل وإقفال الشركات والمؤسسات، والغلاء الفاحش، في تجويع اللبنانيين، ودفعتهم الى اتخاذ الخيارات المؤلمة هرباً من «نار جهنم»، فاختاروا «غدر» البحر على غدر المسؤولين ووعودهم الكاذبة.
قصة «قوارب الموت» التي ذاع صيتها في الفترة الاخيرة، حملت أكثر من سؤال عن حرّية التنقل ضمن المياه الاقليمية، وامكانية أن تكون «فالته» كما يُشاع، وطُرح السؤال عن دور الجيش ووجوده في ظلّ عمليات التهريب الممنهجة.
حمل اليأس شريحة واسعة من اللبنانيين على اجتياز شروط السفارات واللّجوء الى طرق أخطر للهروب من واقعهم، غير آبهين لا بالقوانين ولا بما تحمله من مخاطر على حياتهم وحياة عائلاتهم، ولا حتّى عن إمكانية فشل محاولة الهروب والعودة الى واقع أسوأ، نظراً للمبالغ الكبيرة التي يدفعها هؤلاء قبل المغادرة.
الأعداد الى إرتفاع
تشير المعلومات، الى أنّه وبعد إنفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب، نشط قطاع التهريب عبر البحر بشكل كبير، وإرتفعت نسبة العمليّات فيه. واللافت أيضاً، أنّ الهاربين الذين كانوا قبل هذا التاريخ بغالبيتهم من التابعية السورية، أصبحوا بغالبيتهم من اللبنانيين.
تغيّر ثالث طرأ على عملية التهريب عبر البحر، والتي كانت بالإجمال تقتصر على الرجال وبعض العائلات. أما اليوم، فتحمل عائلات كاملة من رجال ونساء وأولاد وأطفال.
مرفأ الصيادين في طرابلس
ورغم أنّه ليس الوحيد، الّا أنّ مرفأ الصيّادين في ميناء طرابلس يُعدّ مركز التهريب الأول والأكثر نشاطاً، وذلك لأسباب عديدة أبرزها: موقعه الجغرافي، ووقوعه في منطقة من أكثر المناطق فقراً في لبنان، ولقربه من بعض الجزر السياحية، حيث يسهل إختباء المراكب…
في الآونة الأخيرة كثّفت القوات البحرية في الجيش اللّبناني إجراءاتها في مرفأ الميناء، إضافة الى قيامها بتسجيل أسماء الزوارق التي تغادر المرفأ، إن من زوارق صيد أو تلك المخصصة للجولات السياحية والمتوجّهة نحو الجزر المجاورة كجزيرة الأرانب وغيرها.. فعمدت الى التدقيق أكثر فأكثر في حمولة المراكب، وخصوصاً تلك التي تحمل على متنها مواد غذائية ومادة المازوت بكميّات تفوق حاجتها فتمنعها من المغادرة.
لكنّ المهرّبين، ولتفادي هذه الإجراءات، باتوا يلجؤون الى طرق وأساليب عدّة، فيُخرجون الهاربين من المرفأ كما حصل مع «قارب الموت»، من دون طعام أو شراب لإبعاد الشبهات، ويتوجّهون بهم الى الجزر المحيطة وينتظرون هناك حلول اللّيل، حيث يسلكون طريقين للهروب:
– أولاً، عبر التخفي بين قوارب الصيادين ومن ثم يخرجون من المياه الإقليمية.
– أو عبر الاختباء خلف بواخر كبيرة، فلا تلتقطهم ردارات الجيش المنتشرة على طول الشاطئ اللبناني، والتي غالباً ما تكشفهم بعد خروجهم من المياه الإقليمية.
لكنّ المعلومات تشير، الى أنّ «خبرة» المهرّبين هذه، يقابلها أيضاً نقص في عتاد الجيش اللّبناني المولج حماية الحدود البحرية كما البريّة، والذي وبإمكانياته الحالية يحبط نحو 60 الى 70 في المئة من عمليات التهريب هذه.
اذاً، الجيش الذي يجري دورياً تدريبات مع «اليونيفيل» أحكم سيطرته على المياه الإقليمية، وتالياً ليس بمقدور أي مركب الإقتراب أو الدخول الى المياه الإقليمية. لكنّ النقص لديه لوجستي، وصعوبة إلتقاط هذه الزوارق تعود لعوامل طبيعية كالرطوبة والهواء، إضافة الى طبيعة البحر المُنحنية، ناهيك عن صغر حجم تلك المراكب. وللغاية يقوم الجيش في الوقت الراهن بتطوير راداراته. أضف الى ذلك، فالنقص كبير في عتاد الجيش، لناحية الزوارق الكبيرة والسريعة، التي تمكنها من اللحاق مسافات كبيرة في البحر بالمراكب الهاربة.
وفي حين عُلم أنّ الجيش يولي الموضوع بخطورته أهمية كبيرة، تؤكّد مصادر عسكرية لـ «الجمهورية»، أنّ «الجيش يقوم بكل ما في وسعه، ضمن الإمكانات المتوافرة وبالتعاون والتنسيق مع «اليونيفيل»، وسيتابع مهامه لمنع عمليات التهريب ومراقبة الحدود البحرية، رغم درايته وتفهمّه للأوضاع الإقتصادية الصعبة، لكنه غير قادر على السماح بعمليات التهريب هذه أن تستمر».
قارب الموت ليس يتيماً
ووفق المعلومات، فإنّ «قارب الموت» الاخير الذي انطلق من طرابلس ليس «يتيماً»، ولدى الجيش قوائم بأسماء زوارق أخرى غادرت مرفأ المدينة ولم تعد، وأحداً لم يبلّغ عنها، وتالياً مصيرها ما زال مجهولاً، ولا أحد يعلم ما إذا غرقت أو وصلت الى أحد البلدان المجاورة، أو لا تزال تائهة في البحر.
ويصل عدد المراكب المجهولة المصير، التي خرجت بعد 4 آب، الى نحو 16 مركباً تحمل على متنها أكثر من 200 شخص.
لكنّ المؤكّد، أنّ السلطات القبرصية، تعمل على إعادة الواصلين وتسليمهم الى الجيش اللّبناني، الذي يسلّمهم بدوره الى قوى الأمن الداخلي والأمن العام. كما أنّ القوات البحرية القبرصية تعمل على إعادة الهاربين الذين يحاولون دخول مياهها الإقليمية، وتسلّمهم الى الأمن العام اللّبناني.
مطاردة في البحر
وأثبتت التحقيقات أنّ «قارب الموت» الذي عثرت عليه «اليونيفيل» جنوباً، حاول البحث عن قارب آخر يلاقيه ويزوّده بمواد غذائية ومازوت، لكنّ ذلك لم يحصل، ومع تعطّله جنوباً قذفته الرياح الى حيث عثرت عليه «اليونيفيل» على بعد 30 ميلاً غرب طرابلس، خارج المياه الإقليمية.
أمّا داخل المياه الإقليمية، فغالباً ما تحصل عمليات مطاردة بين مراكب المهرّبين والجيش اللّبناني، الذي يحاول بشتى الطرق إقناعهم بالعودة، فيقابلون محاولات التفاوض هذه برفض العودة وبتهديده بالإنتحار وبإغراق أنفسهم وأولادهم في البحر. لذلك، يمضي الجيش ساعات في مطاردتهم، داخل حدود المياه الإقليمية وحتى الى خارجها كي يتوقفون، ويحاول عرقلة عملية الهروب من دون تعريض أحد للخطر.
أمّا بالنسبة الى المهرّبين، فقد أوقف الجيش عدداً منهم وأحالهم الى القضاء المختص.