“عشنا الحلم بقوة… اعتقدنا أننا صرنا في أوروبا”
في البداوي كما في كل لبنان، يتلمّس الكثير من الشباب الهجرة أملا بحياة أفضل. يجدون في قوارب الموت ملاذاً للهرب من الفقر. هو البحر الذي أضحى وسيلة المتعطشين للوصول إلى أوروبا علّهم يجدون في دولها ما عجزت عن تقديمه دولتهم الأم. يمثل بلال موسى عيّنة من عشرات بل مئات الشباب الذين ضاقت بهم الحياة في بلدهم، فصاروا على هامش المجتمع، لا يلتفت اليهم مسؤول او زعيم او حتى رب عمل فقرروا ركوب الموت على ذل الحياة.
يحتضن البداوي ( قضاء المنية – الضنية في محافظة لبنان الشمالي) معملاً للكهرباء ومنشآت نفط وخط غاز، ومع ذلك يعيش أهله في ظلام دامس لولا ساعتي تغذية كهربائية على امتداد اليوم فقط، رغم ما يتحملونه من ضرر التلوث اللاحق بهم. لون المياه صار أحمر منذ تم استهداف الخزانات ولم تخضع للصيانة بعد. مدارسها غالية، ومستشفياتها للقادرين فقط. قطعة من لبنان لا تختلف عن غيرها من جغرافيا البؤس المنتشر في ارجاء هذا البلد وأهله. إزاء هذا الواقع كانت الرحلات المحفوفة بالمخاطر هي الحل “وما يصيبكم الا ما كتب الله لكم”.
الهجرة: الحلّ الوحيد
بدأت القصة خلال جلسة على فنجان قهوة، استعرض بلال موسى (35 عاما) ومجموعة من اصدقائه تدهور اوضاعهم المعيشية والحلول الممكنة. اختاروا الهجرة. كان الخروج من لبنان الحل الوحيد، لكن الى اين ستكون الوجهة، ليس الى دول الخليج لان راتب اللبناني تدنى هناك واختلف الوضع عما كان عليه في الماضي، فكانت العين على دول اوروبا. القرار اتخذ وشرطه الإحاطة بالسرية. باشر بلال تحضير نفسه للسفر. باع سيارته وبعض ما يملك، ليشتري حلماً طال تحقيقه، وحجز مقعداً على “باخرة” تقله الى حيث الامل بحياة افضل وبدأت المغامرة.
قبل ذلك كان بلال قد أصبح بلا عمل. منذ بدأ ارتفاع سعر صفيحة البنزين قرر بلال وهو الاب لثلاثة أطفال الاستقالة من عمله في السوبر ماركت. راتبه المتدني مقابل غلاء المعيشة كان يضطره للاستدانة لتأمين كلفة انتقاله الى عمله “أن أتحول الى عاطل عن العمل منذ ستة أشهر هو حل أفضل من ان اصبح رجلاً مديونا للناس لتأمين بدل انتقال يومي الى مقر عملي”.
يوماً بعد يوم، وشهراً تلو الآخر، كلما ازدادت الازمة اشتد الخناق على بلال وصار البحث عن الحل واجباً. الازمة شملته والكثيرين من ابناء منطقته في البداوي شمال لبنان. وحدها جلسات التدخين على شاطئ البحر كفيلة بالتخفيف عنهم. يتبادلون همومهم وعينهم على البحر وامواجه لعل في واحة منها يتجسد الامل بحياة افضل “كوني عاطلاً عن العمل صرتُ أفكر بالسفر. فالحياة في لبنان مكلفة، يلزمك ما لا يقل عن سبعة ملايين ليرة شهرياً لنعيش حياة ابسط من بسيطة”. صمم بلال على السفر رغم كرهه له “تقدمت بطلب الحصول على باسبور كي اغادر بشكل قانوني ولم استطع. فشلت بالسفر الى بلد عربي، كان حديث الشباب ان راتب اللبناني في الدول العربية صار 800 دولار فصرنا نفكر بأوروبا كحل أفضل”.
قراره بالسفر احدث لديه تأنيب ضمير، كيف سيخبر زوجته التي قد تعارضه الرأي حتماً. خاف من تأثيرها وقد تزوجا بعد قصة حب رومانسية جمعت بينهما لسنوات، اما اصطحاب العائلة معه فيعني تعريض حياتهم للخطر وهذا مستحيل “قررت ان أسافر من دون عائلتي، اتعذب وحدي وأجنبهم العذاب”. يقول بلال”جربت السفر بالبحر، بالبابور. وجدت أشخاصاً ساعدوني على المغادرة. صار الاتفاق معهم ان يتم الدفع مسبقاً في لبنان. بعت سيارتي واغراضي واستدنت 1500 دولار لتأمين مبلغ 4000 دولار المتوجب علينا دفعه لصاحب العلاقة. تركت زوجتي وثلاثة اطفال معها واتكلنا على الله”. يتابع حديثه مبرراً “لم يطاوعني قلبي لاخاطر بعائلتي فتركتهم في لبنان. اغادر كي اؤمن لهم حياتهم لا المخاطرة بهم. اخترت المذلة لنفسي وقلت اذا نمت على الطريق فلا مشكلة، والسفر بالبحر خطر أجنّبه لاطفالي” .
احتمال الخطر لم يحجب حلمه الذي سارع لتحقيقه متحمساً “توجهت عند منتصف الليل ولم اتحدث الى اي فرد من عائلتي. قلت لوالدي سأسافر على متن الباخرة فجراً الى ايطاليا ومنها الى المانيا حيث لنا بعض الاقارب ليساعدوني في بداية حياة جديدة، وغادرت من دون ان اسمع رأيه”.
الصدمة
وجد بلال من يدغدغ حلمه ويلعب على وتر عوزه. وعده متعهد السفر ان رحلته ستكون في غاية السهولة، لن يحتاج الى أي شيء، المنامة والمأكل مؤمنان وفي غضون خمسة ايام ستكون في اوروبا”، ادرك كيف يلعب على نقطة ضعفه. حلم يتحقق على مسافة خمسة ايام قال بلال في نفسه “توجهنا ليلاً على اساس أن السفر على متن يخت واذ بنا نصعد الى فلوكة (قارب). راجعناه فقال ان اليخت موجود بعد ان نقطع المياه الاقليمية اللبنانية لنكمل على متنه”.
بعد انطلاق القارب من القلمون بنصف ساعة تقريباً اعترضته دورية من بحرية الجيش لتعيده “تابعنا سيرنا الى ان قطعنا المياه الاقليمية، عندها انطفأ محرك القارب صار هرج ومرج بين الناس وارتفع صراخ النسوة واعتراهن الخوف”. برر المتعهد ان المياه اخترقت القارب بسبب مطاردة الجيش لرحلتهم، وان العطل كان يمكن اصلاحه لولا خوف النسوة ورغبتهن بالعودة، لكنه لم يقل مثلاً ان هذا العدد الكبير على متن قارب صغير يمكن ان يكون سبباً “كنا اتفقنا ان عدد المسافرين لن يزيد على الخمسين وفوجئنا ان عددنا حين انطلقنا صار 90 راكباً، بينهم 10 شباب من دون عائلاتهم و32 طفلاً”. كان حبل نجاتهم سترة واقية ومناجاة إلهية “لحظة توقف القارب جرت اتصالات مع الجيش لسحبنا خشية الغرق. قيل ان هناك استحالة لاستعادتنا لاننا صرنا خارج المياه الاقليمية. استمرت المحاولات حتى ساعات الصباح الاولى حيث تمت اعادتنا الى المرفأ وبدأت المذلة. تحقيق واحتجاز لساعات في البرد والمسافرون مبللون بالمياه وبينهم طفل في شهره الرابع اختنق وشارف على الموت لولا تدخل الصليب الاحمر ومدّنا بأكياس ساخنة للتدفئة”. حصلت حالات هرج ومرج وأثارت عائلات المسافرين الضجة وقطعت الطرق احتجاجاً على توقيفهم طوال تلك المدة “لولا احتجاج الاهالي لكنا اوقفنا ثلاثة ايام على ذمة التحقيق، بطاقة هويتي لا تزال في حوزتهم واغراضنا الشخصية اخذوها منا في المرفأ وحوّلوها الى الشرطة العسكرية ومن المخفر الى السراي وهناك يقولون ان التسليم يتم بعد اقفال الملف فما دخلي بالملف وما حاجتهم إلى الهاتف ليحتفظوا به مع الهوية”.
عن اصعب دقائق مرت في حياته يقول بلال “اكثر من فكرت فيهم لحظتها هم أولادي وكيف سأغادرهم. لكني لم أخف طالما كنت أرى بصيص امل امامي. عامل الطمأنينة اني كنت قريباً من مياهنا الاقليمية وأجيد السباحة
عاد بلال والسبب في ذهنه ان مطاردة الجيش تسببت بالعطل، وان صراخ النسوة منع اصلاح العطل وأجبرهم على العودة ولكن “انقهرت كثيراً للعطل الذي طرأ ومنعنا من اكمال المشوار ولليوم ما زلت اكبت القهر في داخلي خصوصاً اني بعت اغراضي. كنت واحد بالمية صرت تحت الصفر”.
السفر ثانيةً!
مضى ما يناهز الشهرين على تجربة بلال المريرة لكن الامل في داخله بالسفر لا يزال حياً. واذا كان السفر بحراً في فصل الشتاء يعد انتحاراً، الا ان تجارب الناجين ومن وصل الى اوروبا يشكل حافزاً له ولذا فهو يعد العدة للرحيل مع حلول الصيف وفي داخله شعور يقول له “لا بد ان تنجح”.
ضاقت فرص الحياة لدى بلال ولم يعد امامه الا السفر “الدولة لم تسأل عنا وتقول شو صار معكم؟ وما حدا قال شو ناقصك او قدم لي عملاً فلمَ ابقى. سأستمر بالمحاولة لا محالة”. ولكن ماذا اذا لم يحالفه الحظ بالنجاة مجدداً وكانت حياته عرضة للخطر يقول “انا في بلدي ميت. ماذا افعل سوى النوم. هنا اموت ببطء. الدولار تعدّت قيمته 30 الف والشركات الكبرى تنهار فماذا أعمل وكيف؟”.
يلتمس العذر لمن يعرض حياة اولاده للخطر وهم في مقتبل العمر ويقول “لو عندي شاب لأرسلته لاني عاجز عن تأمين مستقبله. الذل اللي عم شوفو بتمنى ما يشوفوه اولادنا، اذا مرض أحدهم نبيع حالنا لتأمين دخوله المستشفى. وقد لا ندخل الا بعد مشكل وتكسير كما صار متعارفاً عليه في الشمال”.
يرفض دق باب اي من السياسيين “لست مضطراً لذلك والدولة مجبرة على تأمين مواطنيها” اما حين تسأله ماذا لو سنحت لك الفرصة برؤية رئيس الحكومة يقاطع السؤال بالجواب “اذا سنحت لي الفرصة؟ وهل هو نبي لأتحين الفرص للقائه. عليه كرئيس للحكومة ان يبادر الى السؤال عنا لكنه لم يفعل. يطالب بتوسيع التحقيق. طيب اين حقنا. لولا الضغط الشعبي ما طلعنا. هذه دولتنا هيك وما حدا بيسال عنك. انا زلمي ما الي بالسياسيين وما بنتخب حدا فيهم”.
يتابع حديثه متحسراً “في طرابلس نواب اغنياء وسياسيون رجال اعمال لكنهم غير مقيمين فيها ولا تعنيهم الا في موسم الانتخابات”. يتابع الوضع في كازاخستان ويلقي بالملامة على الشعب في لبنان” لماذا نتبع للسياسيين. في كازاخستان خربوا الدني احتجاجاً على رفع اسعار النفط فماذا فعلنا نحن وبلغ سعر صرف الدولار 30 الفاً والبنزين 400 الف”. يفصل بين حبه لبلده ونقمته على سياسييه “لبنان احلى بلد صار زبالة بفضل السياسيين. أحب بلدي ولكني مستعد للتخلي عن جنسيتي التي لا حاجة لي بها ولا تنفعني وبطاقة هويتي محجوزة عند الدولة واقول لهم خذوها لا حاجة لي بها”.
لا يبالغ بلال في امنياته وتقتصر طموحاته على العيش حياة كريمة “لا بدي صير غني ولا بدي عوز حدا” مستجدياً من الحياة “عملاً يؤمن حياتي وعائلتي ويضمن استمرار تعليمهم الذي بات مستحيلاً في لبنان”.
عزاؤه بخوض التجربة مجدداً على ابواب الصيف “اني حاولت. اذا رحلت فسيقال لاولادي ان والدكم غرق بينما كان يسعى لتأمين حياة كريمة لتعيشوها وهذا جهاد في سبيل الرزق”.