تتوالد المآسي وتتراكم الكوارث على اللبنانيين من رحم الأزمة الأم: انهيار الاقتصاد اللبناني ومالية الدولة ومؤسسات كانت ركيزة أساسية لديمومة هذا الاقتصاد على علاته وعلاتها، ولا سيما مؤسسة القطاع المصرفي، الذي يتخبط القيمون عليه مثل تخبط السلطة الحاكمة منذ ما قبل انفجار الأزمة في تشرين 2019. فالإثنان شريكان ليس بالمعنى السياسي فقط بل بالمعنى الفعلي للكلمة.
فاجعة طرابلس هي إحدى الكوارث المتجددة، بل هي تكرار حرفي لفاجعة سبق أن حصلت لزورق حمل مهاجرين غير شرعيين من لبنانيين وسوريين في العام 2021، ما أدى إلى غرق بعضهم أيضاً. هؤلاء أغراهم المهرّبون الذين يعتاشون على مآسي الناس الطيبين الذين ضاقت بهم الدنيا وباتوا عاجزين عن تأمين لقمة العيش في بلدهم.
ليست قصة عابرة أن يصرخ أحد الناجين وهو على فراش الاستشفاء وبالكاد يتنفس من آلة الأوكسجين التي عاجله بها الطاقم الطبي، بعدما تم إنقاذه من أمواج البحر: لا أريد أن أبقى في هذا البلد وسأغادره وسأتركه لهم.
اليأس من البقاء في البلد بات واحداً من ظروف اللبنانيين وأحوالهم التعيسة، ولو كانت المغادرة مبنية على سراب أو أوهام. فالمهاجرون قسراً وبطريقة غير شرعية يفعلون ذلك جراء سماعهم من أقارب أو أصدقاء سبقوهم إلى بعض دول أوروبا وأخبروهم بأنهم رغم أن إقامتهم قد لا تكون شرعية أو دائمة، يعيشون حياتهم اليومية ولو بتواضع، من دون أن يضطروا للقلق من إمكان عدم الحصول على رغيف الخبز.
قفزت إلى الواجهة مجدداً المخاوف من أن تتسبب الفاجعة بأحداث أمنية تنتج واقعاً يقود سياسياً إلى تأجيل الانتخابات النيابية. ساهم اللغط حول الحادث المأسوي في تغذية التكهنات السياسية لتداعياته كرد فعل على الروايات المتعددة في شأن وقائع غرق الزورق، بعدما لحق به مركب تابع للبحرية في الجيش اللبناني لثني «قبطانه» عن مواصلة الإبحار. وما رواه بعض الناجين عن اصطدام المركب العسكري بالزورق فتح الباب على تأويلات، وأطلق اتهامات ضد الجيش، الذي قدم روايته للرأي العام ولمجلس الوزراء، بعيداً من الانفعال الطبيعي لأهالي الضحايا ولأهالي المدينة. في انتظار جلاء الحقيقة، فإن الكارثة التي حصلت هي نموذج آخر من وقائع تلك الإدارة البائسة للأزمة التي ضربت لبنان، ولعجز السلطة القائمة عن التخفيف من تدهورها المتواصل، بفعل القفزات المتواترة لسعر صرف الدولار والتأخر في إقرار قانون الكابيتال كونترول ووضع خطة التعافي. واستمرار هذا العجز هو مصدر اليأس الذي يقود إلى الهجرة غير الشرعية، أو إلى اللجوء للسرقات والمخدرات وأحياناً إلى الانتماء لتنظيمات متطرفة. لكن المخاوف من تدهور الوضع الأمني في المدينة وصولاً إلى نشوء حالة تبرر تأجيل الانتخابات استندت إلى سوابق استغلال جهات في المدينة وخارجها الشباب العاطل عن العمل والناقم، الأمر غير المتوفر في هذه الظروف، على رغم محاولة البعض استغلال الفاجعة وغضب الشارع الطرابلسي سياسياً.
لا أرضية لتكرار السيناريو الأمني في عاصمة الشمال. فلا أموال تدفع لهذا الغرض في عاصمة الشمال، وليس هناك من جهة مخابراتية يمكنها أن تجر المجموعات المشتتة للشبان الناقمين. تعطيل الانتخابات بات يحتاج إلى حدث أكبر من استعمال غضب الأهالي الذين حرقت الفاجعة قلوبهم على أقارب لهم قضوا في البحر، وأدت ببعضهم إلى التعبير عن حزنهم بالتهديد والوعيد. وحتى إضافة عملية إطلاق صاروخ من الجنوب باتجاه شمال إسرائيل إلى حدث الفاجعة كتبرير للخشية من مخطط لتأجيل الانتخابات، لم تصمد ساعات. فالرد الإسرائيلي بقي محدوداً، حتى لا تنزلق الأمور إلى مواجهة. و»حزب الله» امتنع عن الرد على القصف الإسرائيلي رغم تهديداته السابقة، وهو ما حوّل إطلاق الصاروخ إلى رسالة سياسية للداخل قبل الخارج، حول استمرار وجود الخطر الإسرائيلي إزاء من يطرحون مسألة سلاح الحزب في الحملة الانتخابية.
ما يجب أن يتنبه له المتابعون لاحتمالات افتعال أحداث من أجل تأجيل الانتخابات، هو أن الحملة على الجيش أو الإيحاءات بتحميل قيادته المسؤولية كما فعل النائب جبران باسيل، والتي سعى البعض إلى تغذيتها بتصريحاتهم، تستهدف قائده من قبل القلقين من أن يكون ترداد إسمه في بعض الأوساط لرئاسة الجمهورية جدياً. فهؤلاء يريدون قطع الطريق على هذا الاحتمال.
وما يجب أن يقلق البعض الآخر هو قول نائب الأمين العام لـ»حزب الله» الشيخ نعيم قاسم أول من أمس لقناة «الميادين» إن «هناك شبه استحالة في أن يفوز الفريق الآخر بالأكثرية»… في الانتخابات. وعلى رغم أنه نفى أن حزبه يسعى للحصول على الأكثرية، فمن المؤكد أنه لا يتعفف عنها. لكن إذا صدقت «استحالة» الشيخ قاسم، فهذا يعني أن الأكثرية الحالية عائدة للتحكم بالقرار في البلد، فيتكرس العجز عن إدارة الأزمة وعن إيجاد الحلول لها. عندها يجب عدم استغراب تعاظم اليأس وتكرار حوادث قوارب الموت والمزيد من التدهور المعيشي.