لن يكون الشاب روي حاموش الذي جرت مطاردته في محلة الكرنتينا من قبل مسلحين أطلقوا الرصاص على رأسه، ليل الثلاثاء، آخر ضحايا السلاح المتفلّت. ولن تكون آية رحمون التي لم تتجاوز السابعة عشرة من عمرها، ابنة بلدة شرق بعلبك، آخر اللواتي انطفأت حياتهن بمسدس حربي «عن طريق الخطأ». والقافلة تسير بمواكب الحزن والعزاء والصدمة في خسارة لبنان لخيرة شبابه، فقط لأن هناك سلاحاً «متفشياً» في البلد خارج سلطة الدولة، بذريعة الأمن الذاتي وفق حسابات شريعة الغاب التي لا رحمة فيها وإنما تصفية حسابات وأحكام رأسمالها «طلقة» في الرأس.
وكأن الموت في بلد السلام بات وجهة المستعجلين الى أقدارهم، وهو ما تدل عليه الأرقام الأخيرة في مسلسل الجرائم شبه اليومي المتنقل من الشمال الى الجنوب فالبقاع، لتشهد الأشهر الثلاثة الأخيرة مقتل 26 شخصاً بجرائم فردية، وفق أرقام «قوى الأمن الداخلي». وفيما يجري الحديث عن «انخفاض معدلات الجريمة في لبنان»، مقارنة بالدول الأخرى، يشير بعض العارفين إلى غياب معايير الإحصاء الجنائي التي تسمح بتحديد موقع لبنان الفعلي من معدلات الجريمة. أما السبب الرئيسي لتزايد عدد الجرائم الفردية في الآونة الأخيرة، فهو ما يُسمى بـ«العدالة الانتقائية».
وبلغة الأرقام، فإنه منذ بداية العام الحالي وحتى نهاية أيار 2017 (قبل شهر من إنقضاء النصف الاول منه) وصل عدد جرائم القتل الى 107 (بحسب إحصاءات الشركة الدولية للمعلومات)، وهو رقم يعكس ارتفاعاً في عدد القتلى مقارنة مع 73 قتيلاً في النصف الأول من العام الماضي و74 من النصف الأول من العام 2015، وبمعدل 20 جريمة شهرياً و5 جرائم أسبوعياً. وبالتأكيد، فإن المعدل السنوي لهذا العام سيكون مرتفعاً جداً في حال استمرت وتيرة الجرائم على ما هي عليه.
فالمجتمع اللبناني، وبحسب علم الاجتماع وعلم القانون، أصبح فعلياً مجتمع يتّسم بظاهرة الجريمة، لدرجة أن الخبر عن حادثة أصبح عادياً: رجل يقتل زوجته بطريقة وحشية، مواطن يقتل آخر في وضح النهار بسبب أفضلية المرور أو بسبب موقف سيارة، صديق يقتل صديقه من أجل مبلغ زهيد من المال.. وغيرها من جرائم القتل.
ولأنه لم يعد بالإمكان تجاهل الظاهرة التي تعكس وجهاً من الوجوه الأشد خطورة في الواقع الاجتماعي، بحيث لا يمر يوم إلا وتحصل جريمة وربما أكثر في مختلف المناطق اللبنانية ولو تنوعت الدوافع والأسباب والظروف الخاصة بكل جريمة، يصبح تعداد الجرائم أشبه بقائمة طويلة مرعبة. وفي هذا السياق، يعلق أستاذ العلوم الجنائية والعقابية العميد فضل ضاهر، بأن هناك نوعين من الجرائم: الأول يتمثّل بالجرائم ضدّ الأموال والمتعلّقة بعمليات الفساد والاختلاس والسرقات وغيرها، «وهي غالباً ما تكون من سمات المجتمعات الصناعية المتقدّمة». والنوع الثاني المتمثل بالجرائم ضدّ الأشخاص التي أخذت تتزايد في لبنان أخيراً.
وبرأيه، فإن الجرائم ضدّ الأشخاص تزيد الشعور باللاأمان في المجتمع، لافتاً إلى العلاقة الجدلية بين ارتفاع عدد الجرائم ضد الأشخاص وهذا الشعور، عازياً الأسباب إلى ما أسماه «العدالة الانتقائية». بمعنى آخر، الاستنسابية في تطبيق القوانين والعدالة والانتقائية في الالتزام في المحاسبة، وبالتالي «هذا الواقع يخلق أنماطاً عنفية تؤدي إلى هذه الجرائم»، إضافة إلى توافر وسائل القتل بنحو مباح وتفلّت السلاح، فضلاً عن الاصطفافات الحزبية وحماية الأحزاب التي تؤمنها لبعض الخارجين عن القانون.
من هنا، يطرح ضاهر ضرورة وضع خطط اجتماعية وطنية تلحظ وسائل فعالة للتوعية وآليات واضحة تستهدف خفض معدلات هذه الجرائم، عبر معالجة أسباب تزايدها أولاً.
وفي الغوص بالدوافع والأسباب أكثر، يؤكد العميد السابق للمعهد العالي للدكتوراه في الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية طلال عتريسي أنه غالباً في حالات الجرائم العائلية تكون الجريمة ذات بعد نفسي أو اقتصادي أو أخلاقي، ففي البعد الاقتصادي (فقر، ديون…)، الأوضاع الاقتصادية المتفاقمة تدفع الناس الى السرقة والاعتداء وقد يقتل نفسه فقط، وفي البعد الأخلاقي يقتل الآخرين وقد يقتل نفسه، لكن الرائج حالياً هو حالات الاكتئاب أو المرض النفسي حيث ينهي حياته وحياة العائلة أو بعض أفرادها.
ويشير إلى أن الثقافة السائدة والذهنية في مجتمعنا باتتا بحاجة إلى تغيير. هناك جو عام متوتر وعنف مكبوت، نشاهد كيف أن اللبناني يستسهل قتل أخيه اللبناني على أفضلية السير أحياناً، أو بسبب الضغط المستمر على «الزمور».
ويضيف عتريسي: «كما أن التوتر العام المحيط بلبنان سواء في سوريا أو في بلدان أخرى، وما تنقله وسائل التواصل الاجتماعي عبر الهواتف الذكية، تشجع من حيث تدري أو لا تدري، على القتل والسرقة والاعتداء، وتروج للعنف من خلال نقل مشاهد سفك الدماء والجرائم المروعة والإعدامات، حتى أصبح القتل عملية أكثر سهولة طالما أن النظر اعتاد عليها، بعد أن كان المشهد منفراً في البداية».
ويتوقف الباحث والمحلل في علم الاجتماع عند أسباب أخرى منها: «تراجع هيبة القانون وفرض النظام، فهناك جرائم كثيرة لا تحل بشكل واضح وسريع عبر القانون، لهذا السبب يلجأ الناس الى ارتكاب الجرائم بشكل شخصي للانتقام بهدف تحصيل الحقوق أو رد الاعتداء».
ويشدد على أن العقوبات هي العامل الأهم، لأنها تشكل الرادع، موضحاً: «يجب أن تكون هناك عقوبات قاسية وواضحة وعلنية، لكي يفكر الإنسان مئة مرة قبل ارتكابه الجريمة، لأنه في كل بلدان العالم، هناك جرائم تُرتكب لكن هناك قوانين وعقوبات تنفذ بحق مرتكبيها. نحن بحاجة إلى مثل هذه القوانين والعقوبات والتنفيذ الواضح ومن دون أي تردد. فالكثير من مسلسل الجرائم شبه اليومي متعلق بشعور المجرم بأنه قد ينجو بفعلته، وهذه مسألة خطيرة جداً». ويرى أن غياب القانون الردعي له دور في ارتفاع نسبة الجريمة لأن من يرتكب الجريمة، يرى أن من سبقه في هذا السياق لم يمكث في السجن سوى بضعة أشهر، أو أنه أفرج عنه بكفالة أو تدخل أحد السياسيين أو شخصية نافذة لإطلاق سراحه.
ويلاحظ محمد شمس الدين (باحث في الشركة الدولية للمعلومات) ارتفاعاً في بشاعة الجرائم العائلية في السنوات الأخيرة، وكنا قبلاً نرى أبناء يقتلون آباءهم. واليوم نرى العكس، وهذه ظاهرة جديدة.
وبحسب إحصاءات الشركة بلغ متوسط هذه الجرائم خلال السنوات الماضية (2013 – 2016)، 14 جريمة عائلية في السنة، وهذه الظاهرة غير معهودة في المجتمع اللبناني، مردها الى تراجع العلاقات الاجتماعية وانهيار القيم وتفكك المجتمع وغياب الروادع على أنواعها.
وتتعدد الأسباب التي يكشفها بقوله «ولا ننسى عوامل استسهال الجريمة في ظل انتشار السلاح الفالت، والانتشار الرهيب للمخدرات، حيث بات المواطن يرتكب الجرائم تحت تأثير المخدرات».
وبالانتقال إلى المسؤولية، يقول شمس الدين، إنها تراتبية تبدأ من الدولة بجميع وزاراتها وأجهزتها، ومن ثم القيمين على المجتمع اللبناني من رجال الدين واللجان الأهلية والجمعيات والمختصين من أطباء نفس واجتماع وأساتذة جامعات وغيرهم الكثير. «فرجال الدين اليوم لا يركزون على توعية شبابنا بل على أمور أخرى. لا بد من الترابط العائلي والأسري والعمل لحل المشاكل التي يعانيها الكثير من المواطنين على يد المختصين. لدينا مراجع دينية وأهلية واجتماعية عليها ان تتحد لمعالجة هذه المشكلات، لأن مجتمعنا ليس كالمجتمعات الأوروبية حيث كل مواطن أو أسرة تعيش بمفردها».