لم يجد النظام السوري طريقة لاخضاع شعبه بعدما عجزت عن المهمة آلته العسكرية التدميرية من طيران ودبابات وسحق الاطفال والنساء والشيوخ، إلا عن طريق التجويع والحصار ومنع الدواء. ضمن هذا المخطط الذي سبق أن أدّى غرضه في كل من «الزبداني» و«مضايا» و«حلب»، يسير اليوم النظام في الغوطة الشرقية المُحاصرة منذ أشهر من دون ان يُسمح للمؤسسات الاجتماعية والإنسانية بما فيها المحلية والدولية، من إغاثة الأهالي ورفع الموت البطيء عنهم ومدهم ولو بجرعة أمل علّها تُعيد للأطفال الأمل بالحياة.
اليوم، تعيش الغوطة الشرقية الخاضعة لهدنة مُبرمة بين الفصائل المسلحة وروسيا تشمل وقف إطلاق النار بين الفصائل ونظام الأسد وحلفائه، أسوأ المراحل التي مرّت عليها منذ اندلاع الحرب في سوريا على الرغم من عمليات القتل والدمار التي لحقت بالمدينة التي لم تتوقف منذ خمس سنوات تقريباً، وذلك على خلفية الحصار الذي تتعرض له منذ أربعة أشهر تقريباً والذي بدأت إنعكاساته تظهر في موت الأطفال وصرخات الأهالي بعد منعهم من الحصول على المواد الغذائية والطبية بالإضافة إلى استخفاف النظام بهذه الهدنة في ظل مواصلته قصفه للمدينة بشكل يومي، الأمر الذي جعل الأهالي يعيشون حالة صعبة جدّاً قد تعيدهم إلى فترة الموت البطيء الشبيهة بتلك التي مرت بها أكثر من بلدة ومدينة سورية.
ما تُعانيه اليوم الغوطة الشرقية، هو محض انتقام من الأهالي على يد النظام الذي عجز عن تطويع المدينة وسكانها، يوم ارتكب بحقهم أفظع مجزرة سجلها التاريخ في21 آب العام 2013 والتي راح ضحيتها أكثر من الف شخص نصفهم من الاطفال والنساء بعد قصفهم بغاز «السارين». اليوم ينتهج النظام، نظاماً جديداً أثبت برأيه جدواه في مراحل سابقة. أسعار المواد الغذائية وصلت في المدينة إلى أرقام خيالية وصفها البعض بـ «الفلكية»، كل هذا ونظام الأسد يبتكر يوميّاً طرقاً ووسائل في سبيل تطويع الأهالي وجعلهم يستسلمون أمام الخيارين الصعبين اللذين وضعهما أمامهم: إمّا الموت جوعاً، وإمّا الخروج من البلدة بشروط لن تسمح لهم بالعودة إلى منازلهم وأرزاقهم، من ضمنها، الموافقة على بيع ممتلكاتهم بأبخس الأسعار.
تزيد قلة القدرة الشرائية لدى سكان الغوطة الشرقية من معاناتهم، لتأمين قوت يومهم الذي أصبح من الأمور التي تنهك أرباب الأسر مع انعدام فرص العمل. مع العلم أنه في بداية شهر آب الماضي، توسّم الأهالي خيراً بالتهدئة التي وقعت بين النظام والمعارضة السورية برعاية روسية والتي سمحت يومها بإدخال مساعدات غذائية وأدوية إلى المدينة عبر معبر الوافدين برعاية الأمم المتحدة، لكن كل ما تم إدخاله في حينه لا يُمكن أن يرمم آثار الدمار والموت اللذين خلفتهما الحرب ولا يُمكن أن يُعيد الحياة إلى طبيعتها في الغوطة. وما يؤكد توقعات الأهالي بأن ما ينتظرهم في الفترة المقبلة هو الموت وحده، عودة النظام إلى إطباق الحصار على المدينة وتجويع أهلها مجدداً بعدما رفع تُجّار النظام أسعار المواد الغذائية بشكل جنوني. والأخطر هو، منع الدواء والغذاء عن الأطفال والعُجّز، ما ينتج عنه موت في كل يوم وتحديداً بين الأطفال، مقابل قلّة حيلة الأهالي.
منتصف الشهر الماضي، أعلن «المرصد السوري لحقوق الإنسان»، إن ستة أطفال على الأقل قتلوا أمام مدخل مدرستهم، جراء قصف لقوات النظام على بلدة جسرين في الغوطة الشرقية. كما طال القصف مناطق أخرى ما رفع حصيلة القتلى إلى 10. وقد ظهر على الشاشة أحد الأطفال من المدرسة يقول: «كنت قد خرجت من المدرسة وبصدد الانعطاف إلى الزقاق حين سقطت القذيفة». يُضيف مع بكاء وهو من حجم المشهد: «هناك من مات ومن أصيب ومن أخذوه إلى المركز الطبي. حتى الآن لم يأتِ أبي». وأمس الأحد استشهد 20 مدنياً وجرح آخرون في مدن وبلدات الغوطة جراء قصف صاروخي وجوي للنظام. وقد أتى التصعيد العسكري بعد الخسائر التي منيت بها قوات الأسد في إدارة المركبات.
وفي وقائع الميدان أيضاً، وبعد مضي اسبوعين تقريباً على إطلاق «حركة أحرار الشام الإسلامية» معركة لتحرير إدارة المركبات العسكرية بالقرب من مدينة حرستا في غوطة دمشق الشرقية المُحاصرة. يبدو أنها تمكنت من إحراز تقدم ملموس عند أطراف الإدارة، وتحرير عدد كبير من المباني العسكرية، مع عرض مشاهد لاغتنام صواريخ مضادة للطيران، ومضادات أرضية وكميات كبيرة من الذخائر وسط عجز كبير من النظام وحلفائه والمدعوم بالطيران الحربي الروسي الذي لم يوقف غاراته منذ أيام.
بعد تهجير الآلاف من الغوطة الغربية، لا تعرف الغوطة الشرقية ما ينتظرها في المرحلة المقبلة. ثمة العديد من الأسئلة التي يوجهها الأهالي، لكن من دون أن يلقوا أجوبة. أطفال يموتون يومياً في حرب طاحنة تأخذ في طريقها الكبير قبل الصغير، وسط هذا المجهول الذي يُرافق يومياتهم، يطل رجل عجوز على إحدى الشاشات ليسأل: ماذا يُعدّ لنا؟ المزيد من الموت والدمار؟ هل هناك باصات خضراء ستأتي؟ وإلى أين ستكون الوجهة؟. ويختم «وحده الله يعلم ما تخبئه لنا الأيام القادمة».
مصير الغوطة يُعرف، بمجرد قراءة أحد المنشورات التي ألقتها طائرات النظام في سمائها الشهر الماضي مرسوم عليه صورة لباص أخضر، وكُتب في أسفل المنشور «هؤلاء اختاروا الطريق الصحيح.. فكّر.. وقرّر.. التحق بهم ولا تتردّد.. إنه طريق الخلاص».