لم يعد السيّد حسن نصر الله يلجأ الى التورية السياسية في مواقفه، فهو مقتنعٌ أنه بات في موقع المنتصر داخلياً واقليمياً، وأن مشروع خضوع المنطقة كلّها للنفوذ الإيراني بات قاب قوسين أو أدنى. ولذلك أعلن بوضوح انه داعِم لبشار ولبقاء الهلال الإيراني، وان معركته المقبلة هي مع معارضي تَحوُّل هذا الهلال الى قمرٍ مستدير، وأهمهم دول الخليج وبالتحديد المملكة العربية السعودية.
وعلى وقع تَغيُّر الهتاف من الموت لأميركا واسرائيل الى الموت للسعودية، تَوالت رسائل نصر الله بما فيها الاستعداد لنقل النار الى أيّ مكانٍ في الإقليم وتحت أيّ مسمى من دون مراعاةٍ ولو شكلية (كما كان يحصل سابقاً) لا للتماسُك المجتمعي او الديني او المذهبي بل على العكس تماماً … أردْناها وأردتموها سنيةً – شيعية فلتكن، عربيةً – فارسية فلتكن، إيرانيةً – دولية فلتكن.
وغياب التقية شفافيةٌ تُحسب للرجل، فقد كان سابقاً يقول إنه يدافع فقط عن قرى على الحدود السورية استغاث أهلها بالحزب (لا بالجيش اللبناني)، ثم برّر دخول قوات الحزب أكثر بالانتصار لمقاماتٍ دينية، وجيّش غرائز أنصاره متمنياً لو كان رصاصاً في بنادقهم «كي لا تُسبى زينب مرتين»… واستمرّ التدرّج في التبرير وصولاً الى الخطابات الأخيرة التي أعلن فيها المبررات الكاملة.
لكن نصر الله، لم يبرّر لا لجمهوره ولا لغيره كيف ينخرط في حربٍ مع قواتٍ روسية تنسّق في الجو مع اسرائيل لقتْل سوريين ويتحالف مع رئيسٍ يؤكد علنا ان كل شيء مرتّب مع تل ابيب بما يحفظ مصالحها في هذه الحرب … سيجدون لها بالتأكيد لاحقاً تخريجةً وديباجة وفذلكة، ومع ذلك يتعاظم الشعور بأن الحزب ومن خلفه بشار وإيران لم يعودوا بذاك الحَرَج حتى في ما يتعلّق بإسرائيل، وخصوصاً ان تَراجُع هذا الحَرَج يُراكِم تقدماً متزايداً في الدعم الأميركي والدولي لهم.
بعيداً من السياسة، وقريباً من شعارات الموت التي تشي قبضات رافعيها بالبوصلة الجديدة للتعبئة والتحرك، نجد ان السؤال الحقيقي الذي يكبر تختبئ إجابته خلف وعيٍ مغيّب. لماذا يتمّ تحويل هؤلاء الشبان من طلاب حياة الى فِرَق موت؟ لماذا يتمّ إخراجهم من مدارسهم وجامعاتهم وأعمالهم الى معسكرات التدريب لمواجهة «عدوٍ» تحدّد إيران كل فترة هويّته؟ لماذا يتمّ اغتيال أحلامهم بمستقبلٍ علمي ومهني متحضّر لهم ولأبنائهم يغزون فيه أسواق العمل الدولية وينفتحون انسانياً وثقافياً وفكرياً على العالم وتُزرع فيهم بدل ذلك نَوازِع كرهٍ وحقدٍ وانغلاقٍ تُوزِّعهم لاحقاً على خلايا مهمتها اغتيال شخصيات ومعارضين؟
ألم يَسأل والدُ أحدِ هؤلاء مثلاً لماذا قضى ابنه «استشهاداً» عندما كان «العدو» في جنوب لبنان هو حركة «أمل»؟ ثم كيف ينظر الآن الى التحالف العظيم بين «حزب الله» و«أمل»؟ ألم يَسأل شاب آخر لماذا قضى شقيقه «استشهاداً» عندما كان «العدو» في البقاع من الحزب السوري القومي الاجتماعي؟ ثم كيف ينظر الآن الى التحالف العظيم بين «القومي» و«حزب الله»؟ ألم تَسأل أمّ لماذا قضى ابنها «استشهاداً» عندما كان «العدو» في بيروت من الحزب الشيوعي؟ ثم كيف تنظر الآن الى التحالف العظيم بين هذا الحزب و«حزب الله»؟
صحيح ان المواقع لا تُقارَن بين اقتتالٍ داخلي وآخر خارجي، لكن المبدأ لا تجزئه الأعداد، فهؤلاء قضوا عندما رُفعت القبضات في اتجاه شعارات الموت هنا وهناك. ومع الاحترام الكبير لمصاب ذويهم الجلل ولمصاب أهالي الآخرين الذين فَقدوا أيضاً فلذات أكبادهم، فإنهم قضوا في مساحة الموت المجاني. ماتوا من اجل الموت … كان شعار الموت لهذا وذاك موتاً لهم ايضاً.
اليوم يعودون من سوريا بالأكفان. يعودون برصاص «عدوٍ» حدّدته إيران وقد تتحالف معه لاحقاً، إن لم تكن حركته الراهنة بالتحالف معها أصلاً، فما تنشده إيران أساساً أكبر من «حزب الله» ولبنان والمنطقة. وغداً سيصعّدون الموقف ضدّ «أعداءٍ» جدد رُفعت قبضات الموت ضدّهم. ليس مهماً عند نصر الله كيف ينعكس خطابه سلباً على المقيمين في دول الخليج وغير الخليج، فهؤلاء إن عادوا الى بلادهم فسيعودون الى بيئة البؤس، والبؤس يستدرج التعبئة… والتبعية.
الحياة، لا الموت، هو ما نريده لهؤلاء ولغيرهم. هناك أماكن في هذه الدنيا غير الخنادق ومخازن البنادق وميادين الرماية على صُوَرٍ تتغيّر بالريموت كونترول من طهران. ورغم كل التبريرات مثل ان «الحياة أحياناً لا تمرّ إلا بموت الآخرين»، او ان «الشهادة حياة للآخرين وكرامة للأمة» او «أبالموت تهدّدني يا ابن الطلقاء؟»… فإن الله غرس فينا ان الكرامة تكتمل ايضاً مع عشق الحياة.