Site icon IMLebanon

موت الحياة وبقاء البشر

 

منذ آلاف السنوات والبشرية منشغلة في ارتباط ديمومة الحياة بالوجود البشري، حتى في أزمنة الحروب الكبرى والأمراض التي حصدت ملايين الأرواح، واعتبار الحياة هي عملية تعبير عن التفاعل والتواصل  بين الأفراد والجماعات والثقافات والحضارات. ونشهد هذه الأيام تغيير في القواعد وهو موت الحياة وبقاء البشر، هذا التغيير الذي أعاد العالم بأسره الى بديهيات الإنسان الأول في جهل المفاضلة بين المفيد والضار وبين الخطأ والصواب، وعادت غريزة حب البقاء تتقدم على كل المعارف والرغبات، وتغيرت معايير القوة والضعف وأسباب الحروب والنزاعات، وانتقلنا من تنافسية الصناعات الحربية وأدوات القتل والدمار إلى الانخراط في تنافسية معرفية على من يكتشف لقاح الكورونا أولاً من اجل عودة الحياة الى البشرية المصابة بالفشل والعطالة والضياع والانكماش.

 

كل المجتمعات تعيش حقيقة موت الحياة وبقاء البشر على اختلاف القارات والأوطان والأديان والصناعات والأسواق وخارج حسابات الخسائر والأرباح، مع قلق شديد على التماسك والتواصل والاجتماع الانساني، مع جهل واضح في معرفة  كيف تعيد الحياة لأجيالها المتراكمة في المنازل والمستشفيات والحفاظ على انتظامها في وظائفها واختصاصاتها وعلى حماية الطاقات والمواهب والاستثمارات والطموحات مع حالة التقوقع والانكفاء، والبشرية جمعاء تنظر إلى الرؤساء الأقوياء الكبار بذهول وارتياب وهم يعترفون بأنهم لا يعرفون حتى الآن الدواء، أي أننا أمام بدائية جديدة بلغاتها ومعتقداتها المتعددة وقاراتها واكتشافاتها وخصوصياتها وهي مجتمعة لا تعرف كيف تحافظ على الحياة، إنها لحظة انكشاف وحشية الأغبياء المنشغلين بالادعاءات والحماقات وبذكرياتهم السوداء خارج المكان والزمان وبتجاهل مخيف لما تعيشه مجتمعاتهم من قلق وضياع مع انعدام البديهيات الوجودية في مواجهة الوباء.

 

عندما تموت الحياة ويبقى البشر نكون أمام بدائية تكنولوجية حيث نعرف ما يدور في أقاصي الدنيا بالصوت والصورة وبالنصوص، ولا نعرف ما الذي يجري خارج باب شقتنا المتواضعة ولا نستطيع أن نلتقي الأصدقاء أو نتصافح ونشتاق إلى الاحبة من الأطفال الذين نخاف لقاءهم أو عناقهم بعد أن صار كل واحد منا هو الوباء أو مشروع وباء بأحسن الأحوال، إنها أيام شديدة الهول والشقاء انهارت خلالها أحلام وحقائق وتغيرت فيها الضرورات وتداخل الواقع بالأوهام وأصبحت الطائرات والغواصات والأسلحة النووية أوهام أو أشبه برسوم الأطفال المتحركة في حين يتقدم الأطباء والمسعفون وعلماء الأوبئة على الرؤساء والجنرالات.

 

عندما تموت الحياة ويبقى البشر توصد الأبواب والنوافذ ويبدأ الانكفاء والتقوقع وتتقدم المبيدات القاتلة على العطور الطيبة ويغمرك الحنين إلى لقاء حبيب أو قريب وتحن إلى لقاء العقلاء والظرفاء وحتى الثقلاء، وترغب بالسير على طرقات الأحلام في الجبال حيث البدايات الأولى والحب الأول، وتشتاق إلى المرج والرفاق والسهول والبيادر والمقابر والأنهر والعيون، عندما تموت الحياة ويبقى البشر وتموت الصداقات والخلافات والمعادلات والمحاور والتجمعات وتسمو الفضائل على الغرائز وتتقدم صناعة الأمل والاستشراف على المراجعات والأحقاد ونكء الجراح.

 

اليوم السبت ٢١ آذار ٢٠٢٠ الذي يصادف عيد الأمهات حيث يفيض الوجدان بالمودة والوفاء ومع الكورونا وموت الحياة والتقوقع والانعزال بما يشبه اليتم الوجودي ومع انعدام التواصل والمواساة حتى في الجنازات فلا بد من لحظة صدق وصفاء، لأني أخاف على الأطفال والشابات والشباب من وباء كورونا الطائفية اللبنانية، ذلك الوباء الذي حرّمه دستور الطائف شهيد الاعراف والمعادلات والذي اعتبر الطائفية هي الوباء المانع لقيام دولة المواطنة المدنية والذي فتك بكل أجيال الطموح والأمل والعطاء بالقتل والتهجير والاغتيال والاغتراب.