في النقاش الغربيّ العامّ والراهن، تتلخّص إحدى أبرز القضايا التي طرحها نجاح «بريكزيت» وفوز دونالد ترامب، في ثنائيّة الطبقة العاملة (البيضاء) وجماعات الهويّة الإثنيّة والدينيّة والجندريّة. وطرفا هذه الثنائيّة مقهوران ومسلوبا الحقوق، إلاّ أنّ ظروف السنوات القليلة الماضية وضعت واحدهما في وجه الآخر.
واقع الحال أنّ تقديم هذه المسألة على شكل ثنائيّة متناحرة داخليّاً ليس بالأمر الجديد. ففي بيئة اليسار، لم يغب النقاش حول ما إذا كان الصراع الطبقيّ، بمعناه الاقتصاديّ الحصريّ، كافياً لأن يحرّر النساء أو يذلّل المسألة العنصريّة. ولم يحل التوكيد على سبب طبقيّ مداور وراء اضطهاد النساء والأقلّيّات، من دون انحياز بعض المؤكّدين إلى ضرورة العمل المستقلّ عن الأحزاب العمّاليّة: فلا المرأة تحرّرت وتساوت بالرجل في الاتّحاد السوفياتيّ، الذي «أزال التناقض بين قوى الإ~نتاج وعلاقات الإنتاج»، ولا العنصريّة زالت في كوبا الكاسترويّة. وكثيراً ما كانت تُستعاد، في هذا النقاش، سلباً أو إيجاباً، خلفيّات ترقى إلى مساجلات لينين مع الشيوعيّين اليهود في روسيا ممّن طالبوا، في البدايات المبكّرة للقرن الماضي، بلون من الاستقلال التنظيميّ عن الحزب الجامع.
ولا يزال متابعو النقاش المذكور يستعيدون كتاب «الإنسان ذو البعد الواحد» الذي أصدره، أواسط الستينات، هيربرت ماركيوز. فالفيلسوف اليساريّ الأميركيّ، الألمانيّ الأصل، والذي كان من رموز «مدرسة فرانكفورت»، وجّه للتأويل الماركسيّ الأرثوذكسيّ طعنات عدّة. ذاك أنّه، إلى دحضه العنيف للنموذج السوفياتيّ، اعتبر أنّ الرأسماليّة نجحت، بنظام سيطرتها عبر شبكة موسّعة للاستهلاك والحاجات الجديدة المصنوعة، في امتصاص الطبقة العاملة ودمجها في نظامها، بالمعنى الأعرض للنظام. هكذا رأى أنّ قوى الأقلّيّات غير المندمجة في ذاك النظام، ومعها المثقّفون الراديكاليّون، إنّما نابوا عن البروليتاريا الصناعيّة، في مهمّة تثوير العالم وتحويله.
اليوم، عاد هذا النقاش إلى الواجهة بأسماء وعناوين أخرى، وطبعاً في ظلّ ظروف بالغة الاختلاف. فأكثريّة العمّال البيض المُفقرين، في بريطانيا والولايات المتّحدة، صوّتت لـ «بريكزيت» ولترامب، فيما صوّتت أكثريّة جماعات الهويّة للبقاء في أوروبا ولهيلاري كلينتون. وإذ تعاني أحزاب، كالعمّال البريطانيّين والديموقراطيّين الأميركيّين، خطر التصدّع، تبعاً لعجزهما عن إدامة الائتلاف بين هاتين الكتلتين، يمتدّ التصدّع إلى معنى «اليسار» نفسه، ويتراشق المثقّفون النقديّون اتّهامات بالغة الحدّة: فالناطقون بلسان الهويّات لا يتورّعون عن اتّهام نقّادهم «العمّاليّين» بالعنصريّة، فيما الأخيرون يتّهمون الأوّلين بالنخبويّة وبتجزئة السياسة والاجتماع الوطنيّين. وفي مقابل بيرني ساندرز «العمّاليّ»، تُرسم لباراك أوباما «الأسود» ولهيلاري كلينتون «المرأة» صورة التمثيل «الهويّاتيّ». وإذ يتخوّف «العمّاليّون» من طغيان سياسات الهويّة على إستراتيجيّات الاعتراض، وصولاً إلى اختيار «المسلم» صديق خان محافظاً للندن، أو ظهور أقطاب في الحزب الاشتراكيّ الفرنسيّ كـ «السوداء» و «المرأة» كريستيان تاوبيرا، يتخوّف «الهويّاتيّون» من تزمّت قوميّ وذكوريّ لدى «العمّاليّين»، تزمّتٍ لا يطمس مطالب الأقليّات وحقوقها فحسب، بل يطمس أيضاً وجودها السياسيّ والثقافيّ.
والحال أنّ مسألة الهجرة تبقى مصدراً لاحتدام المساجلة. فـ «العمّاليّون» يعتبرونها، إلى جانب الاتّفاقات التجاريّة العابرة للحدود الوطنيّة، السبب الأبرز لتدهور مستوى معيشتهم، بعد تآكل فرص العمل المتاحة لهم. أمّا «الهويّاتيّون»، لا سيّما منهم الإثنيّين والدينيّين، فيرونها مصدر نشأتهم ذاتها والنسغ المغذّي لوجودهم نفسه.
وأغلب الظنّ أنّ مقاومة ترامب وبقية الشعبويّين ستبقى ضعيفة ما لم ينشأ ائتلاف تقدّميّ يستعيد، بصيغ جديدة ومطوّرة، ما كانه الحزب الديموقراطيّ الأميركيّ وأحزاب الاشتراكيّة الديموقراطيّة في أوروبا. وهو ما يبدو اليوم بالغ الصعوبة: فـ «الهويّاتيّون» الطامحون إلى توسيع الحقوق بما يواكب مستجدّات المجتمع التعدّديّ الحديث، لن يكسبوا حقوقهم هذه ما لم يستميلوا الأكثريّات الوازنة في مجتمعهم. فهذه الأخيرة هي القادرة على إسباغ شرعيّة تاريخيّة لا يعترف بها عتاة التعدّديّة المندفعون في تطبيق صوابهم السياسيّ على نحو يكاد يكون انقلابيّاً. و»العمّاليّون» يتركون للأوهام أن تستبدّ بهم حين يتراءى لبعضهم أنّ ترامب وكبار الأثرياء الذين تُحشى بهم حكومته سيعيدون إليهم حقوقهم التي «سلبها المهاجرون واللاجئون»، ويعيدون معها الأعمال اليدويّة التي اقتلعها التقدّم التقنيّ نفسه، لا «مؤامرات النخبة ومعاهداتها التجاريّة». وهذا بينما لا يلوح في الاحتمالات القريبة الممكنة إلاّ خسارة هؤلاء العمّال البيض تلك الضمانات الصحّيّة البسيطة التي حصلوا عليها في ظلّ أوباما.