في مبنى مستقل في احد احياء بيروت الراقية والهادئة (محلة الجناح) ، ووسط العديد من الابنية الفخمة تقع سفارة فلسطين التي يميزها مجسم لامع من السيراميك لصخرة المسجد الاقصى رفعت على واجهتها الامامية مع العلم الفلسطيني. ومن هذا المبنى المحاط باجراءات امنية مشددة يدير عدد من“المناضلين” المخضرمين الشأن الاكثر تعقيدا في الساحة اللبنانية، اي الشأن الفلسطيني ، المتمثل اكثر ما يكون بـ11 مخيما رسميا تنتشر من اقصى الجنوب الى اقصى الشمال مرورا بالعاصمة وضاحيتها الجنوبية، فضلا عن عدد مماثل لمخيمات صغيرة متفرقة نشأت لاحقا بفعل هجرات مستجدة بدأت بعد عام 1970 ، وهي تضم وفق لوائح وكالة “الاونروا” نحو 400 الف لاجىء ، في حين يصر العاملون في السفارة على ان العدد الفعلي لهؤلاء لا يتجاوز الـ 250 الفا.
اكثر من عقد ونصف عقد من الزمن انقضى على فتح هذه السفارة ابوابها متصدية لمهمة تمثيل الدولة الفلسطينية الوليدة في حينه وعاصمتها الموقتة رام الله ، ولترعى شؤون اللاجئين الفلسطينيين وشجونهم الثقيلة الوطأة ، ولتكون ايضا صلة الوصل بينهم وبين السلطات اللبنانية المعنية.
وبهذه المقاييس قد تكون زيارة السفارة الان امرا لا ينطوي على مفاجأة او يجسد حدثا يستدعي الاهتمام . غير انك تجد دائما لدى المشرفين في هذه السفارة جديدا مبشرا وواعدا من جهة ، ومتخوفا ومهجوسا من جهة اخرى.
منطلق الحديث مع هؤلاء يبدأ من المشاكل الفلسطينية الداخلية وما اكثرها ، وبالتحديد ما بات يسمى “معضلة الانقسام الفلسطيني” وطرفاه السلطة (وحزبها الاساسي حركة “فتح“) ذات المنشأ الوطني ، وحركة “حماس” النابتة في رحم “الاسلام الاخواني” . بعد شرح مستفيض لاسباب هذا الانقسام الحاد ورغبات “حماس” المعلومة وتلك المضمرة والتي تتمحور على عدم اعادة غزة وقطاعها الى مظلة السلطة الفلسطينية كمدخل عملي لرأب الصدع ، ثم تعليل لاسباب اخفاق تجارب ومحاولات لانهاء الانقسام والتوحيد والتي انطلقت على اسس اتفاقات عدة بدأت باتفاق مكة ثم باتفاق القاهرة وبعدها الدوحة ، واخيرا وليس آخرا “اتفاق الشاطىء” الذي ابرم في مخيم الشاطىء على بحر غزة.
التجارب كما صار معلوما تمخضت عن حكومة وفاق وطني ، لكنها لم تفلح في اقناع من يعنيهم الامر باعادة غزة وقطاعها الى حضن السلطة عمليا . وفي الحصيلة ظل الانقسام امرا واقعا ومستمرا يقدم باعتراف الجميع خدمة جلّى للعدو الاسرائيلي المستفيد الاول من هذا التصدع وما يندرج تحت عنوانه من صراعات اوشكت على ان تنهي عقده الثاني.
وبالانتقال الى الشأن الفلسطيني في الساحة اللبنانية ، ثمة اقرار بثنائية مزمنة تظلل هذا الشأن: ارتياح حاضر ونقزة مقيمة . اذ لايخفي هؤلاء شعورا بالارتياح الى تطور فرض نفسه للتو وهو زيارة الامين العام للامم المتحدة بان كي– مون لمخيم البداوي في الشمال في نطاق زيارته للبنان ، فهي المرة الاولى تطأ اقدام اعلى مسؤول اممي الازقة الضيقة والبائسة لمخيم للاجئين الفلسطينيين في الداخل او في ساحات الشتات. هو اذاً بالنسبة اليهم استتباع طبيعي لتطورات ايجابية في علاقة القضية الفلسطينية بكل مندرجاتها ووجوهها السلبية بالعالم وكان ابرزها دخول فلسطين عضوا مراقبا الى الامم المتحدة ، وهذه مسألة تعني الكثير وتعد بالكثير.
انه بمعنى آخر استشعار اممي بمعاناة الانسان الفلسطيني المنسي. دخول بان كي – مون بما يمثل الى مخيم قصيّ هو انجاز لمصلحة اللاجىء المهمش ، وهو ولا ريب يبث الغضب في الاسرائيلي الذي تنتابه الرجفة كلما اقترب وجدان العالم اكثر من الجرح الفلسطيني النازف دوما دما ومعاناة.
وثمة انجاز آخر يتحدث هؤلاء عن انه تحقق للتو وهو معركة مواجهة القرارات الظالمة لوكالة “الاونروا” والرامية الى التهرب من مهمتها الاساسية في رفد اللاجىء باسباب الدعم وخصوصا في مجالات الاستشفاء والتعليم والوان الاغاثة . لم تكن معركة هيّنة ، إلا ان ثمة شعورا بان كل الفصائل بما فيها الخارجة عن اطار منظمة التحرير سارت متكاتفة في ركب المواجهة فأجبرت الوكالة على اعادة النظر في اجراءاتها وتدابيرها المجحفة لمصلحة ابن المخيم . صراع مزمن ولا شك مع هذه الوكالة لكن هذه المرة هي غير كل المرات السابقة والامل لدى هؤلاء ان يكون القيمون على هذه الوكالة قد ايقنوا بان للاجىء حقوقا مكتسبة وربا يحميه وقوى تسهر على الدفاع عنه.
امر ثالث يتحدث عنه هؤلاء بايجابية وهو نجاح الفلسطيني في تجاوز اختبار تحد كبير تمثل في النأى بنفسه عن كل ما شاب الساحة اللبنانية من تداعيات واحداث بعد اشتعال فتيل الازمة في سوريا. فقبل 5 اعوام توجهت انظار الكثيرين الى المخيمات وقاطنيها متوقعة ان يؤدوا ادوارا ما في اي تطور امني او سياسي مرتقب. ولم يعد خافيا ان الانظار اتجهت اكثر ما يكون الى عين الحلوة المخيم الاكبر لاعتبارات عدة ابرزها انه يعد خارجا عن السلطة المباشرة للدولة اللبنانية واجهزتها ، وانه يضم بين جنباته مجموعات سلفية على صلة نسب ورحم بالمجموعات الارهابية المتفشية ، وانها ربما تكون في طور التحضير لأسر قرار هذا المخيم المكتظ والذي هو على تماس مع جوار لبناني متنوع . في مراحل عدة تنامت هواجس لدى البعض من هذا المخيم مع ورود معلومات عن دخول مطلوبين اليه ومع خروج مجموعات خطرة منه الى الضوء والفعل وشروعها في عمليات تحد واستفزاز للقيادة الرسمية الفلسطينية التي اوكلت اليها السلطة اللبنانية امر ضبط الوضع داخل المخيم.
ويؤكد هؤلاء ان جهودهم المكثفة بددت الكثير من الرهانات والمخاوف ، فلا الفلسطينيون انزلقوا الى ان يكونوا وقودا لاي فتنة ولا المجموعات الخطرة نجحت في الاستحواذ على قرار المخيم الذي بقي على وضعه المعروف. ولايخفي هؤلاء انهم تبلغوا من مسؤولين وقيادات لبنانية معنية ارتياحهم واطمئنانهم الى ان الفلسطيني في لبنان تجاوز اختبارا صعبا واثبت انه لن يكون احتياطا لاي فتنة او رهان على فتنة. وزيادة في الاحتياط والحرص على امن عين الحلوة يتحدث هؤلاء عن نجاحهم في اعداد قوة من 900 عنصر دربها خبراء حضروا خصيصا وانتشروا في انحاء المخيم ،ونيطت بها مهمة احباط اي محاولات من شأنها تغيير هوية المخيم وتعكير علاقاته مع محيطه او احداث فتنة في داخله.
ومع كل تلك الانجازات يبقى سؤال محوري يقلق هؤلاء وهو: كيف السبيل الى الاعلام اللبناني وبعض المسؤولين ان عليهم الكف عن التعامل مع عين الحلوة كبؤرة توتر واحتياط فتنة غب الطلب ومع كل تطور داخلي ؟ ويضيفون: الا تكفي تجربة الاعوام الخمسة الماضية لتكريس مسلّمة ان الصورة الحقيقية للمخيم هي خلاف السائد وان الفلسطيني احرص ما يكون على الا يكون وقودا لاي فتنة قائمة او نائمة ؟