تطول لائحة الشهداء ويتساقط الشهيد تلوَ الآخر في وطن قسَّمته السياسة، وجعلته الجغرافيا يُواجه المتاعب والمصاعب، فيما باتت الأزمات خبزه اليومي، والمتفجّرات جزءاً لا يتجزّأ من صناعته التي تَرمي إنسانه كالحطب في نار أحرَقت جسده.
«بتحبّ لبنان حبّ صناعتو»، قد يكون هذا الشعار من أهمّ الشعارات التي أطلقها الوزير الشهيد بيار الجميّل الذي رحَل في مثل هذا اليوم منذ 10 سنوات مع رفيقه سمير الشرتوني، وهو شعار يرمز الى معانٍ ودلالاتٍ عدّة تخرج من إطارها النظري والشعبوي لتدخل الى عمق الأزمة اللبنانية.
«بتحبّ لبنان حبّ صناعتو»، هذه العبارة تدلّ على أنّ لبنان لا ينهض بالخطابات والعبارات التجييشية، إنما ببناء دولة حقيقية عمادها مؤسسات قويّة وإقتصاد مبني على القطاعات الإنتاجية الصناعيّة والزراعية والسياحية.
لكن لو لم يستشهد بيار، مَن كان ليتذكّر هذا الشعار؟ بل كان ليُواجَه بموجة تعليقات وحتّى سخرية أبطالُها بعض المواطنين والسياسيين، والدليل هو أنّ أحداً من القوى السياسيّة لم يطالب بحقيبة الصناعة أو الزراعة أو السياحة أو البيئة، بل إنّ العيون كانت شاخصة إلى الحقائب الخدماتية والسياديّة، وكأنّ بلداً سينهض من تحت الأنقاض متّكلاً فقط على أموال المغتربين والمساعدات، وكأننا لا نملك عقولاً تُخطّط في وقت ساهم اللبناني في إعمار بلدان عدّة وأنقذ شركات صناعة عالميّة وكان رائداً في الإختراعات والإبتكارات في المهجر.
استشهد بيار الجميّل في يوم عيد العلم، وصورة تقبيله العلم ما زالت راسخة في أذهان اللبنانيين. لم يكن شهيداً لحزب وعلماً من أعلامه فقط، بل استشهد وزيراً كبُر شعاره، وانتشر يافطات في البلدات والمدن وعلى لسان كلّ مواطن، ليُذكّرنا بأنّ هناك قطاعاً تعتاش منه آلاف العائلات اللبنانية، لكنّ كلّ هذه الذكريات لم تتخطَّ إطار الشعارات، لأنّ أحداً لم يقرن قوله بالفعل، حتى إنّ الأوضاع الإقتصادية في مجمل القطاعات زادت سوءاً، والأفظع أنّ معظم السياسيين باتوا يُردّدون أخيراً عبارة: «لكم لبنانكم ولي لبناني»، وويل لأمّة تأكل ممّا لا تزرع وتلبس ممّا لا تنسج… لكنهم عملياً يطبّقون العكس.
لا سيادة من دون شعب، ولا شعب قويّ من دون أن يأكل ويلبس ويتحصّن إقتصادياً، فالشهيد بيار الجميّل كان في طليعة الكتائبيين الذين ناضلوا وضحّوا بحياتهم فداءً للوطن، انضمّ الى قافلة حزب الكتائب وقيادات ثورة الأرز، ولائحة الشهداء قد تطول لأنّ الأوطان ترتوي دائماً من دم شهدائها، لكن ماذا تنفع كلّ الدماء إذا لم توَظّف في بناء وطن؟
لا ينكر أحد أنّ حجم التضحية كان كبيراً والأثمان ثقيلة، وهذه فاتورة طبيعيّة لكلّ مَن أحبّ وطنه. وفي نظرة سريعة الى البلدان التي دمّرت، نرى أنّ ألمانيا قامت من تحت ردم الحرب العالمية الثانية وأصبحت القوّة الاقتصادية الأولى في أوروبا، وبريطانيا العظمى التي تعرّضت لأشرس هجوم من هتلر انتصرت واستعادت حضورها، واليابان التي حرقت أرضها قنبلة هيروشيما عام 1945 بنت قوة اقتصادية هائلة وباتت الدولة الثانية المصنّعة في العالم.
لم يعش حزب الكتائب في الجنة السياسية، وهو الذي تأسس عام 1936 وقاد معركة التحرّر من الإنتداب الفرنسي عام 1943، ووقف الى جانب الشرعية وضد تذويب هوية لبنان عام 1958. حارب الفلسطيني والسوري وكلّ غريب، وذهب الى السلم بعد توقيع «اتفاق الطائف»، وكان بيار الجميّل من أبرز وزراء الحكومة الأولى بعد إنسحاب الاحتلال السوري في نيسان 2005، لكنّ السيادة والاستقلال بقيا منتقصين، والوطن عاش مراحل تحوّل كرّستها التقلبات الإقليمية. وحتى لو كانت الحقيقة مؤلمة، لكن يبدو أنّ الشهداء «راحوا ضيعان» لأننا لم نستطع بناء دولة.
ودّع الجميّل رفاقه في «ثورة الأرز»، ورحل في عملية اغتيال نُفّذت في وضح النهار، وما زال المجرم من دون عقاب، وسط أسئلة كثيرة وغموض يلفّ القضية.
وكان من أبرز أهداف اغتياله إسقاط حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، ما اضطُّر وزير الداخلية آنذاك حسن السبع إلى العودة عن استقالته لكي لا تسقط الحكومة بفقدان الثلث زائداً واحداً من أعضائها، الى أن أتت عملية 7 أيار وقلبت الموازين الداخلية، ورجّحت كفّة فريق على القوى الإستقلالية.
بعد عقد على رحيل بيار، تفكّكت قوى «14 آذار»، لأنّ السياسة مراحل وتوازنات. إهتزّ «الوطن والعائلة»، حيث كاد الوطن أن يسقط في التجارب مرّات عدّة، فيما ترك بيار وراءه ولدين (ألكسندر وأمين) وزوجة (باتريسيا) ورفاقاً أكملوا المسيرة رغم الإخفاقات، ووطناً يستعيد روحه مجدّداً. ويبقى الحاضر ضائعاً والمستقبل مجهولاً، لكنّ عدالة الله تبقى الأمل.
لا تكفي الذكريات والشعارات لتكريم الشهداء، بل إنّ الأساس يبقى تنفيذ ما آمنوا به، ليكون لهم أكبر تكريم وأصدق تقدير لمشاعر ودموع ذرفت… ليبقى لبنان.