تخلّت اسرائيل عن الحرب المباشرة مفضّلة خوض حربها، وفي مفهوم الحروب فإنّ خوض الحرب يخضع لاستراتيجيات متعددة ومختلفة فتختار الدول ما يناسبها من تلك الاستراتيجيات وفق متطلبات المعركة والميدان. ولذلك تلجأ دول احياناً الى العمليات الخاصة وتلجأ دول اخرى الى ما يسمّى «عملية جراحية» ضمن العمليات الخاصة تخوضها احياناً بقوى تقليدية وكلاسيكية كالمدافع والدبابات. ومن المعلوم ان اسرائيل لا تحيد عن هذه القاعدة العسكرية العامة وهي قد اعتمدت في ما مضى سياسة الـ DECAPITATION، اي «قطع الرؤوس»، وهي سياسة معروفة ومعتمدة لدى جيوش اخرى وقد استخدمتها اسرائيل لمواجهة منظمة التحرير الفلسطينية في الماضي وكذلك داخل فلسطين وفي الداخل اللبناني ضد القادة الفلسطينيين، ومن احد اكبر الاسماء الذين استهدفتهم تلك السياسة هو الامين العام السابق لـ«حزب الله» السيد عباس الموسوي. اما في اواخر السبعينات فالجميع يتذكر ابو حسن علي حسن سلامة التي حاولت اسرائيل اغتياله اكثر من 5 مرات قبل ان تنجح في القضاء عليه. فما هي سياسة «قطع الرؤوس» الـ DECAPITATION ؟ ولماذا عاودت اسرائيل استعمالها؟
يقول قائد معركة فجر الجرود العميد فادي داود لـ«الجمهورية» انّ اسرائيل تختار رؤوساً من المنظومة التي تتحارب معها وتستهدفها لتصفيتها تماماً كما فعلت مع ابو حسن سلامة وقبله مع الكنفاني. والتاريخ مليء بالاسماء التي اغتالتها اسرائيل مُتّبعة سياسة «قطع الرؤوس»، الا ان الدراسات والمعاهد العالمية الى عامي 2006 و2007 وصلت الى نتيجة مفادها ان سياسة «قطع الرؤوس» لا توصل الى نتيجة، خصوصا مع المنظمات المشابهة لمنظمة التحرير الفلسطينية، اي منظمات «المقاوَمة» كـ«حزب الله» وغيره من المنظمات المشابهة على قاعدة انّ ايّ رأس يتم تطييره يخلق بدلاً عنه ألف رأس. والدليل انّ تلك السياسة التي استهدفت عماد مغنية أنتجَت خلفه فوراً مصطفى بدر الدين، وحين تم استهداف الاخير كان هناك فوراً خلفاً له. وعليه، يلفت داود الى انّ تلك الدراسات السياسية لاستراتيجيات الحروب خلُصت الى نتيجة مفادها ان سياسة «قطع الرؤوس» غير مجدية وتم صرف النظر عن اعتمادها. ولذلك منذ ذلك الوقت يُلحظ عدم تنفيذ جهاز المخابرات الاميركية الـ CIA أي عمليات اغتيال.
فلماذا تعود اسرائيل الى سياسة «قطع الرؤوس»؟ والسؤال هل هذه السياسة مجدية اليوم؟
يرى داود ان هذه السياسة ينفع استعمالها مع منظومة هرمية ولا تنفع مع منظومة عنقودية، مشيرا الى ان المنظومة الهرمية شبيهة بتنظيم «الجيوش» أي التي تتكون من قائد جيش، ورئيس اركان، ومدير مخابرات ومدير عمليات… فإذا غاب احدهم من الصعوبة ان يتم ايجاد البديل بسرعة، اي انّ العملية يلزمها وقت لأنّ وظيفة كل فرد من هؤلاء محدودة بعمل ويلزمها وقتها لإيجاد البديل، أي انّ غياب اي مكوّن ينسف الهرم العسكري ويصيب المؤسسة العسكرية بالشلل حتى لو تم تعيين البديل، فيما المنظمات العنقودية كـ«حزب الله» مثلاً، إذا ما تم القضاء على رأس ما، فإنها لا تتأثر، لأنّ البديل يكون دائماً جاهزاً. لذلك تم تشبيهها بالعنقود الذي اذا سقطت منه حبة فإنه يبقى، ولذلك سمّيت بالتنظيم العنقودي.
اسرائيل عود على بدء
تُجمع تحليلات الخبراء العسكريين على أن اسرائيل اليوم لم يعد لديها خيارات، فهي لديها هذه الوسيلة التي اعتمدتها سابقاً، ونتنياهو من اصحاب هذه المدرسة التي تؤمن بسياسة قطع الرؤوس وهو لا يؤمن بالسياسة الحديثة، بل يؤمن بسياسة الثمانينات التي لا تفهم سوى بالمنطق العسكري. لذا، هو لا يقتنع بأن الحروب لا تنتهي سوى بالجلوس حول الطاولات المستديرة ولا يقتنع سوى بالاستراتيجية التي كان ينفذها في الثمانينات، لذلك عاد اليوم الى اعتمادها لأنها بحسب تقديراته تعطيه نتائج لمصلحته.
في المقابل، يؤيّد داود ما خلصت اليه دراسات المعاهد الاخيرة، والتي اكدت ان تلك السياسة لا تؤدي سوى الى زيادة نقمة الشعوب وحقدها وليس لها نتيجة لسبب رئيسي لأنّ اسرائيل لا تحارب منظومة هرمية بل منظومة عنقودية، فمثلاً صدام حسين هو منظومة هرمية، عندما تم القضاء عليه تَقسّم العراق. بينما المنظومة العنقودية التي استهدفت بتطيير عماد مغنية لم تؤد الى شلل عمل المقاومة بل تم ايجاد البديل فوراً.
في الخلاصة، من الواضح انّ سياسة «قطع الرؤوس» لم توقف «حزب الله» كما انها لم تفرمل اندفاعة اسرائيل لأنّ الطرفين يخوضان حرباً وجودية، فإسرائيل تعتبر انّ خسارتها تعني انتهاء وجودها لأنّ «حزب الله» يدعو الاسرائيليين للعودة الى ديارهم التي أتوا منها، سواء من اوروبا الشرقية او من غير بلدان، فيما اسرائيل تدعو الى اقتلاع «حماس» وترحيل الفلسطينيين من غزة ومن الضفة الغربية. ولذلك، إنّ الحرب بالنسبة الى الاطراف الثلاثة اسرائيل و«حماس» و«حزب الله» هي وجودية، وانّ احداً لن يتهاون في خضم المعركة.
في المقابل، إنّ الاوساط القريبة من «حزب الله» تراهن على أن اسرائيل الى زوال قريباً واذا ما صَح هذا الافتراض، من الطبيعي ان تستعمل اسرائيل وعلى كل الجبهات كافة اسلحتها واستراتيجياتها…
من جهة أخرى يدرك المعنييون أنّ الحزب لا يمكن ان يواجه اسرائيل بالسياسة نفسها، اي بسياسة «قطع الرؤوس» لأنه لا يمتلك الحجم التقني والمعلوماتي الذي تمتلكه اسرائيل… إنما اذا جاء الضوء الاخضر بالرَد على عملية اغتيال العاروري مثلاً بعملية تساويها، من الممكن ساعتئذٍ اذا اجتمعت القوة والتقنية الخاصة بـ«حزب الله» وحركة «حماس» معاً أن ينتج هذا التعاون عملية مشابهة للرد على عملية العاروري، الا انّ القرار في شأن تلك العملية ليس في يد الحزب بل في يد ايران. علماً ان «حزب الله» حتى الساعة لم ينتقل الى مرحلة الحرب الهجومية، بل ما زال في مرحلة ردات الفعل… وهو ما زال يسجل على دفتره الثأر لعماد مغنية ولكنه حتى الساعة لم يفعل! ما يعني انّ ردة الفعل لم تُساو الفعل حتى الساعة، في وقت يتزايد عدد عمليات الثأر التي يسجلها «حزب الله» على دفتره.