الوجدان المسيحي يرى في الديموغرافيا حربه الخاسرة ويبحث عن حبل خلاص
بات معقّدا ومتشعّبا النقاش الحاصل في اللامركزية الإدارية والمالية، وبُعدها الآخر الفديرالية، المُعرّبة إتحادية، نتيجة إصرار رافضي هذا الطرح على إحباطه وصولا إلى إجهاضه بذريعة إبقاء البلد موحّدا. وكلّما زاد إصرار الرافضين على الرفض، كلّما تمسّك اللامركزيون بطرحهم، لا بل ذهبوا إلى التداول بأفكار جديدة – قديمة بلغت حدّ العودة إلى لبنان الصغير، أو المتصرفيّة بلغة القرن التاسع عشر.
ولا ضرر في توصيف الأمور كما هي، فرافضو اللامركزية هم في غالبيتهم العظمى من القوى المسلمة، فيما دعاتها هم من الغالبية المسيحية التي باتت تشكو جنوح المكوّن الشريك إلى نوع من أنواع الديكاتورية العددية، أو حكم القوي، حيث لا اعتبار للآخر. وللامركزيين دلائل كثيرة، آخرها التهشيم المتعمّد لرئاسة الجمهورية ووضع اليد عليها بقوة الأمر الواقع، والمتآلف عليه الثنائي الشيعي والشتات السنّي، يُترجمه بحرفية عالية رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي.
أحيت الممارسة المجتزئة للحكم، معطوفة على التعدّي الصارخ وغير المسبوق على الميثاقية، ملجأ المسيحيين وملاذهم وركنهم الدولتي المطمئن منذ سنة 1943، الذاكرة الجمعية المسيحية الحبلى بمحطات أليمة فقدوا فيها الشراكة، أو كادوا.
في السردية الطاغية، هذه الأيام، أن الوجدان المسيحي اللبناني طالما استدعاه الحذر من الخطر المتأتي من تحالف الشريك مع الغريب. لذا تغاضى المسيحي، غالبا، عن كل أخطاء قادتِه وأفعالهم وجرائمهم، طالما وقفوا سدا منيعا في وجه ذلك التحالف. بمعنى أوضح، شكّل التآلف مع كل من الفلسطيني والسوري أوجه الخطر على المسيحيين بين سنتيّ 1975 و1982.
1-لذا فسّح المسيحي لبشير الجميل أخطاءه، من إهدن إلى الصفرا، لأنه ببساطة رفع راية مقاومة التحالف مع الغريب، وتصدى له في أكثر من محطة.
2- وتعاطف مع سمير جعجع، وفسّح له تداعيات الانتفاضة الدموية على إيلي حبيقة. لا بل ذهب حدّ شيطنة الأخير ورذله ونفيه لأنه رأى في موافقته على الاتفاق الثلاثي خضوعا للنظام السوري وخروجا عن العصب المسيحي. وها هو اليوم يغفر لجعجع ماضيه وكل هفواته واخطائه لأنه يقف ضد الشيعي المسلح المدعوم من النظام الإيراني.
3-والتفّ حول ميشال عون، واحتمل الحصار والقصف والتهجير والدمار، لأنه أشهر معارضته للسوري وخاض ضده حرب التحرير. ومن ثم عاد فمنح عون ٧٠ بالمئة من أصواته سنة ٢٠٠٥، لأنه ببساطة وقف في وجه التحالف الرباعي، وريث السوريين بعد خروجهم في نيسان 2005.
ويرى الوجدان المسيحي، وفق السردية نفسها، في الديموغرافيا حربه الخاسرة، الواقعة حتما، ونتائجها لا بدّ وخيمة. فالمسيحيون في تناقص مستمر وقاتل حتى الـ15 بالمئة من مجموع اللبنانيين بعد 20 سنة من اليوم. وهكذا دواليك، إلى أن يصلوا حتى الذوبان الكامل. في الانتظار، يفقدون تباعا وتدرّجا مكاسبهم في الحكم والدولة والبلد (قيادة الجيش، حاكمية مصرف لبنان، وعلى الأرجح رئاسة الجمهورية ربطا بتهديد مكتوم بين الحين والآخر)، تماما كما يفقدون ما بقي من تعاطف الشريك، وهو المتوافر لهم راهنا حكمةً وعطفاً لا استحقاقاً، ولا يزال يؤمّن مناصفة، وإن أريد لها أن تكون شكلية. أمرٌ لا يُخفى ولا يُحجب. إذ سبق أن هُدّدت قيادات مسيحية بالعودة إلى حكم العدد، وانتخاب العدد، إن هي أصرّت على مناصفة كاملة لا شبهة فيها أو عليها.
تستعيد السردية الطاغية مسيحيا، حكم المتصرفية (1861 -1918، حتى إعلان الإنتداب الفرنسي) نموذجا يمكن الإتّكاء عليه للخروج من الإحباط الزاحف، ومن حكم العدد وهاجسه. يومها، أقرّت السلطنة العثمانية النظام المتصرفيّ الفتيّ بعد الفتنة الطائفية الكبرى سنة 1860 والتي اجترّت مذابح في جبل لبنان ودمشق وسهل البقاع وجبل عامل، بين المسلمين والمسيحيين عموما، والدروز والموارنة خصوصا.
جعل نظام الحكم الجديد جبل لبنان منفصلاً إداريا، ونوعا ما سياسيا، عن باقي بلاد الشام، يحكمه متصرف أجنبي مسيحي عثماني غير تركي وغير لبناني تُعيّنه السلطنة بموافقة الدول الأوروبية العظمى الست: بريطانيا وفرنسا وبروسيا وروسيا والنمسا وإيطاليا.
لا تخفى إيجابيات المتصرفية، من انتشار العلم والوعي والثقافة مع تكاثف المدارس والجامعات (الكلية السورية الإنجيلية وجامعة القديس يوسف)، إلى النمو الاقتصادي نتيجة توسع الزراعة وازدهار صناعتيّ الحرير والنبيذ وتعاظم التجارة الداخلية والخارجية، والأعمال العمرانية والبنائية وشق طرق المواصلات وتطوير مرفأ بيروت، وغيرها من محاسن ذلك الزمن.
في السردية المسيحية، أنه من هذا المنطلق يمكن البناء على جبل لبنان الكبير، من بشرّي إلى جزّين فزحلة، من أجل إطلاق دينامية دولتية قوية وقادرة على الاستمرار تستخلص العبر من عثرات لبنان الكبير، بشراكة مسيحية – درزية متينة ومتأصّلة، مع منح عدد من الجيوب وضعا استثنائيا، وجعل بيروت عاصمة مفتوحة. وهي وصفة مستدامة إن حسُنت إدارتها بالتكافل والتضامن، بين الشريكين على وجه التحديد.