IMLebanon

من اللامركزيات القاتلة إلى اللامركزية الوطنية

 

 

أيقن اللبنانيون بما لا يقبل الشك أنّ دولتهم الرثة قد بلغت الحائط المسدود بل ارتطمت به. وقاحةٌ غير مسبوقة في شخصنة الحكم واستهتارٌ متمادٍ بموجبات الدولة تجاه مواطنيها، بعد تحويل مسألة إقصاء المحقق العدلي طارق البيطار كشرطٍ لاستئناف العمل الحكومي، إلى مسلّمة مقدسة تقف دونها كل المؤسسات الدستورية وتزهق من أجلها مصالح المواطنين وتسحق المصلحة الوطنية. الوضع السياسي القائم تختصره ثوابت تكرّست بالممارسة، لا دولة، لا مؤسسات دستورية ولا قضاء، غياب تام للأمن الإجتماعي وانعدام الخدمات الحياتية والبيئية، ناهيك بانعدام دور السلطات المنتخبة كالبلديات المتمتعة بشرعيّة المواطنين ضمن نطاقهم الإجتماعي والديموغرافي، بحكم محدودية الموارد ومحدودية الصلاحيات التي تختصرها مراسيم وإجراءات لا تتيح للبلديات تطوير إمكاناتها بتحفيز المواطنين على الإستثمار.

 

حال الدولة اللبنانية لا يختصرها فقط الفساد المتفاقم والإعتداء اليومي على الدستور والقانون والقضاء، هي حال متدهورة وقد تفاقمت من محاصصة بين زعماء تقاسموا الناتج القومي إلى لامركزية حزبية/ طائفية متمادية، هدفها تجيير الموارد وتوزيعها على المحازبين، ولا مركزية في ابتكار سياسات من خارج المؤسسات وضعت في خدمة الولاءات الإقليمية أو المال السياسي المحلي. أولى المسلمات أنّ السياسة الخارجية في لبنان وقرار السلم والحرب لا ينتجان في مجلس الوزراء فهما حتى إشعار آخر مرتبطين بحسابات حزب الله وتحالفاته، والأمن القومي في لبنان أضحى مفهوماً إقليمياً ودولياً بامتياز ولا علاقة للقابضين على أنفاس الجمهورية به.

 

هذا الأمر ينطبق على كلّ مجالات الشأن العام، فالسياسات في مجالات الصحة والطاقة والبيئة وسواها لا يمكن نقاش فشلها أو نجاحها في مجلس الوزراء، لأنها منبثقة من خيارات فئوية طائفية أو سياسية يحدّدها الوزير القّيم الذي يحميه ميزان القوى القائم. ومع تطور الوضع أُفقياً وعامودياً أصبحت كلّ مجالات الشأن العام خاضعة لدوائر نفوذ متشابكة يستحيل فكفكة ارتباطاتها وإعادتها الى حيث يجب. البطاقة التمويلية التي ينتظرها اللبنانيون الذين يكتوون بنار الأزمة الإقتصادية دخلت في مهب التسييس، وربما تدخل بعدها الإنتخابات النيابية ــ المعبر المتبقّي لاستمرار شعور اللبنانيين بأنّ لهويتهم قيمة ــ التي قد يعطلها عدم توقيع رئيس الجمهورية على مرسوم دعوة الهيئات الناخبة في حال لم يستجب المجلس الدستوري للطعن المقدّم منه لرد التعديلات التي أقرّها المجلس النيابي وتحويل الإنتخابات إلى قضية ميثاقية. المتحكمون بلبنان المتناحرون على فتات ما تبقى وأسيادهم الإقليميون حوّلوا اللبنانيين إلى عبيد يباعون ويشترون في أسواق الرقيق السياسي والمذهبي والإقليمي، وحوّلوا لبنان إلى ساحة لصراعٍ لامتناهٍ في الزمان والمكان من أجل طهران.

 

لقد أدّى قصور العقل الدولتي الذي لم يرقَ إلى تطوير القدرات الوطنية واستثمار الخريجين والفساد المستشري الذي استساغ الإنفاق في قطاعات غير مجديّة، الى تحويل اتّفاق الطائف ــ بالتراضي بين المستفيدين ــ الى منصة طائفية لتحقيق أرباح لهذا الحزب أو ذاك وهذه الطائفة أو تلك. تشهد إرتكابات مجلس الإنماء والإعمار الذي تتوزع القرار فيه كلّ الطبقة السياسية على اجتماع الرغبات، ناهيك بالمجالس والصناديق التي كرّست للزعامات حق السطو على المال العام على حساب اللبنانيين. لبنان هو دولة اللامركزيات الطائفية التي أرهقت الإقتصاد، واللامركزيات السياسية التي قضت على الدستور، واللامركزيات الأمنية التي تقدّم مفاهيم أمن الجماعة على الأمن الوطني، وهو يُدفع لبلوغ اللامركزية القضائية بتعطيل التحقيقات التي لا تنسجم مع مصالح الطوائف وقوى الضغط السياسي وتقديم مفاهيم جديدة للعدالة والحق والباطل.

 

ثوابت عديدة يمكن الإستناد إليها وتساؤلات عديدة جديرة بأن تطرح في معرض تلمسّ مسار التغيير:

 

إنّ كلّ محاولات ترميم السلطة القائمة أو حتى استبدالها لن تؤدي إلى إنقاذ لبنان، فمن المستحيل أن يؤدي التغيير الفوقي في المؤسسات الدستورية نتيجة الإنتخابات النيابية القادمة إلى إحداث تطور نوعي في الحوكمة، دون أن يلاقي هذا التغيير تراكم إقتصادي / إجتماعي / سياسي ينطلق من قلب التجربة والمعاناة الحالية التي يعيشها المجتمع. إنّ اللقاء المتوازن بين مسار تكوين السلطة وصعود الوعي المجتمعي هو اللحظة الحرجة للتأسيس لمفهوم جديد في المشاركة السياسية وبناء سلطة وطنية واقتصاد وطني وأمن قومي ودور جديد للبنان إنطلاقاً من تحديد سليم لنقاط القوة والتهديدات الواقعية.

 

إنّ التّحدي المطروح على كلّ من قوى 17 تشرين والقوى السيادية وأُطر المجتمع المدني ذات القدرات الأكاديمية والتقنية والمالية والإقتصادية، يكمن في امتلاك الكفاءة لإطلاق مجالس إقتصادية / إجتماعية محليّة تضطلع بمسؤوليات تطوير القدرات الإقتصادية والخدماتية والتربوية وتأمين فرص عمل، وتلاقي ما نصّت عليه وثيقة الوفاق الوطني في فقرة اللامركزية الإدارية لجهة تطوير المناطق اللبنانية وتنميّتها إقتصادياً وإجتماعياً. وبمعنى آخر امتلاك المبادرة لتحرير المواطن اللبناني في علاقته بالسلطة من حالة الإستجداء إلى حالة المشاركة في صناعة متطلباته وحقوقه السياسية والإنسانية.

 

إنّ قوى التغيير مدعوة لاستقطاب الأحزاب السيادية أو بعض جماهيرها ونُخبها التي تخلصت من وَهْم حماية الإستقرار وإمكانية الإصلاح على حساب السيادة، وأدركت حقيقة الأزمة الإقتصادية والسياسية التي يعيشها لبنان. إنّ مقدّمات هذا اللقاء متاحة في لحظة امتلاك هذه الأحزاب أو نخبها الشجاعة الأدبية لإجراء قراءة نقديّة لتجربتها في السلطة، واتّخاذ القرار بالعبور الى الدولة عبر خطوات تتجاوز حالة التعبير عن القلق حيال مستقبل لبنان، وتجنّب الإنزلاق إلى أي دور أمني.

 

إنّ الستاتيكو الذي تعانيه قوى التغيير في لبنان واستمرارها في حالة الدوران على الذات يكمن في الإكتفاء بالتركيز على إنضاج حالة الوعي السياسي وعدم إعطاء الجانب الإقتصادي الإجتماعي الأولويّة المطلوبة. إنّ التبعيّة السياسية التي عاناها اللبنانيون لم تكن سوى نتيجة حتميّة لحالة الزبانيّة الإقتصادية والخدماتية التي كرّستها المنظومة السياسية القائمة، والتي حوّلت المواطنين إلى رعايا وأتباع لدى من أمسك بأبسط مقوّمات حياتهم ومستقبلهم. إنّ المركزية التي أمسكت السلطة بزمامها قد تحوّلت إلى لامركزيات قاتلة في الإقتصاد والأمن والسياسة، وإنّ اللبنانيين الذين امتلكوا شجاعة التحرر من السلطة السياسية القائمة ويتداعون كل يوم لتغييرها، مدعوون لصياغة لامركزية وطنية تستند إلى الدستور لاستعادة حقوقهم السياسية والإقتصادية والإجتماعية.

 

العميد الركن خالد حمادة

 

* مدير المنتدى الإقليمي للدراسات والإستشارات