لم يبق حزب قديم أو جديد، أو شخصية مستقلة خاضت الإنتخابات النيابية الأخيرة إلا وتبنّت اللامركزية، حتى باتت العنوان الإصلاحي الجامع في بلد الإنقسامات التي لا تحصى. بعض الأحزاب الوازنة ورغم خلافاتها العديدة، تجمع على ضرورة تطبيق اللامركزية ليس فقط كمدخل للإصلاح الإداري والإقتصادي، إنما أيضاً كشرط لتعزيز الميثاقية الدستورية، خاصة أن اللامركزية هي من أهم بنود إتفاق الطائف وهو التسوية التاريخية التي وضعت حداً للحرب الأهلية.
الفرصة مناسبة اليوم لوضع هذا الإصلاح الاساسي على رأس الأولويات، ليس فقط كونه نقطة التقاء بين قوى سياسية مشتتة ومتناحرة، إنما أيضاً لأنه يشكل البديل عن نظام مركزي طائفي فشل على كافة المستويات. فشل في تأمين الإستقرار السياسي فتحول البلد الصغير إلى ساحة للصراعات في الإقليم، كما فشل في تحقيق النمو وتوزيع الثروة لأنه عجز عن تأمين حد أدنى من الحوكمة لا بل مأسس الفساد.
قد تعلو أصوات بعض المعترضين على اللامركزية، منهم عن سوء نية، وهم طبقة المستفيدين من نظام المحاصصة، المتحسرين على انهياره، والهارعين لتعويمه، ومنهم عن حسن نية، إذ يعتبرون اللامركزية نوعاً من أنواع التقسيم. وإذا كانت الفئة الأولى لا تستأهل الرد، لأن مواقفها الرافضة مبنية على اعتبارات مصلحية شخصية أو فئوية، يبقى أن النقاش يجب أن يبقى مفتوحاً مع من يرفض الفكرة عن قناعة، معتبراً مثلاً أن اللامركزية تهدد وحدة الشعب اللبناني، أو تضعف الدولة في أدوارها المتعددة، مثل توفير الأمن وإحقاق العدالة وتأمين الحماية الإجتماعية.
والحقيقة أن اللامركزية لا تساهم فقط في تنفيس الإحتقان المذهبي المتنامي بين المكونات اللبنانية، وإنما تشكل أيضاً الطريق الأنسب لانتشال البلاد من الأزمة الإقتصادية التي تمر بها. علم الإقتصاد الحديث واستراتيجيات التخطيط المرتبطة به، في معظمها تعتمد مقاربة “من الأسفل إلى الأعلى” Bottom up approach والتخطيط التشاركي Community based planning. كل هذا يندرج في النهج اللامركزي.
خدمات كثيرة أخفقت الدولة المركزية في تأمينها، هي من الوظائف الأساسية للبلديات والسلطات المحلية، ليس اقلها، إدارة النفايات ومعالجتها، إنتاج الطاقة وتوزيعها لا سيما الطاقة المتجددة، تطوير شبكات المياه والري، إنعاش مرافق إقتصادية مرتبطة بخصائص المناطق الجغرافية أو التاريخية، بالإضافة إلى كل الاستراتيجيات المدرجة اليوم ضمن إطار النمو المستدام. قوة اللامركزية أنها تجعل من المدن والبلدات قاطرات للنمو الإقتصادي.
أثبتت اللامركزية أينما حلت في العالم أنها قوة دافعة للنمو الإقتصادي ومحفز للمشاركة والمحاسبة، كونها تقرب الخدمة من المواطن وتسهل عليه عملية المراقبة والمساهمة المباشرة بصنع السياسات العامة. وفي لبنان تحديداً يحوّل هذا الإصلاح الأساسي الصراع القائم بين الطوائف إلى تنافس ما بين المناطق. وكيف يغيب عن البال أن أحد اسباب التعطيل وغياب الإصلاحات في نظام المحاصصة كان يتمحور حول صراع الأحزاب الناطقة باسم الطوائف حول حصتها من الصندوق المركزي تحت شعار تحصيل حقوقها.
لم ينهَرْ نظام الدولة المركزية القائم على المحاصصة فحسب، إنما تسبب بالإنهيار الإقتصادي والمالي. فلا يجوز اليوم تعويمه. اللامركزية هي الطريق لبناء الدولة القوية، المتوازنة والمستدامة.