هل عدم تطبيق اللامركزية المنصوص عليها في اتفاق الطائف الذي تمّ إقراره منذ أكثر من ثلاثة عقود هو مجرّد مصادفة، أم يَنمّ عن قرار من جهة معينة حالت وتحول دون هذا الإقرار؟ وهل اللامركزية الواردة في هذا الاتفاق ما زالت تَفي بالمطلوب أم انّ وقائع ذاك الزمن لم تعد تتطابَق مع معطيات الزمن الحالي؟
لم يحصل الانقلاب على اتفاق الطائف بطريقة عشوائية، إنما حصل وفق خطة سباعية مدروسة:
البند الأول في هذه الخطة اغتيال الرئيس رينيه معوّض من أجل ضرب رأس الجمهورية وتوجيه رسالة عاجلة وعامّة بأنّ كل من يريد الالتزام بالدستور الجديد سيلقى مصير الشهيد معوّض نفسه.
البند الثاني في خطة الانقلاب على الطائف إقرار قانون انتخابي وتقريب موعد الانتخابات النيابية من أجل الإمساك بمفاصل السلطة وكامل القرار الرسمي ليتولى تغطية وجود الجيش السوري في لبنان وطنياً وسياسياً.
البند الثالث في الخطة الانقلابية سحب إعادة تَموضع الجيش السوري باتجاه البقاع كخطوة أولى قبل خروجه الكامل من لبنان من التداول السياسي والإعلامي، ما يعني استمرار هذا الوجود إلى ما شاء الله.
البند الرابع في هذه الخطة استثناء “حزب الله” من تسليم الميليشيات سلاحها بحجة انه مقاومة، علماً انّ الحرب الأهلية كانت بين المسيحيين والمسلمين، واحتفاظ الحزب بسلاحه يعني مشروع غَلبة شيعية على المسيحيين.
البند الخامس تَخيير القوى السياسية وتحديداً المسيحية بين الانضواء تحت السقف السوري، وبين الخروج من المعادلة السياسية إلى المنفى او المعتقل او المعارضة بسقف منخفض وبما لا يشكل خطراً على التركيبة القائمة.
البند السادس إقرار مرسوم التجنيس بأعداد سورية هائلة من أجل تغيير الواقع الديموغرافي داخل الأقضية وتحديداً المسيحية بما يُفسح في المجال أمام التحكُّم بمسار الانتخابات النيابية ونتائجها، لأنّ الخصم الأول للنظام السوري ولكل مشاريع تغيير هوية لبنان كان المكوّن المسيحي السيادي، فلا يكفي تغييبه سياسيا، إنما منعه من الانبعاث مستقبلا، والمدخل لكل ذلك تغيير الوقائع الديموغرافية.
البند السابع رفض تنفيذ بند اللامركزية من أجل إبقاء السيطرة المركزية في كل شاردة وتفصيل، وقطعاً للطريق أمام اي بنية طائفية تستطيع تثبيت وجودها وترسيخه بمعزل عن الدولة المركزية، ولا يخفى على أحد انّ النظام السوري كان يريد نقل تجربة ضَربه للبيئة المسيحية إلى البيئتين السنية والدرزية من أجل بعثة لبنان وإفساحاً في المجال أمام حكم الشيعية السياسية.
وقد يكون هناك بنود أخرى أيضا، ولكن هذه البنود السبعة شكلت سلسلة في حلقة متكاملة هدفها تكريس مشروع غلبة طويل الأمد، خصوصاً ان الفئة المستهدفة منها هي المسيحية التي واجهت كل محاولات وضع اليد على لبنان، فالجيش السوري لم يخرج سوى في لحظة تحولات خارجية، والاغتيالات التي تستهدف الشخصيات السيادية تواصلت، و”حزب الله” ليس في وارد تسليم سلاحه، والتجنيس تحوّل إلى أمر واقع، وقانون الانتخاب لم يعدّل ليعكس صحّة التمثيل سوى بعد شد حبال لعقد من الزمن، واللامركزية لم تقرّ…
والتوازن الدقيق الذي استند إليه اتفاق الطائف قام على معادلة نقل صلاحيات الرئاسة الأولى إلى مجلس الوزراء مجتمعاً، وصلاحيات السلطة المركزية إلى السلطات المحلية، وقد تم الاكتفاء بتطبيق الشقّ الأول من المعادلة من دون الثاني في انقلاب ما بعده انقلاب على اتفاق الطائف، حيث انّ مطلب المسلمين كان في تحقيق المساواة في مجلس النواب والسلطة التنفيذية، وهذا مطلب محقّ، فيما مطلب المسيحيين كان في منح السلطات المحلية الصلاحيات الإدارية والمالية التي تخوّلها تثبيت الناس في أرضها عن طريق حُسن الإدارة وتوفير الخدمة وتطوير الإنماء وتأمين فرص العمل، خصوصاً في ظل فشل الدول المركزية والصراع الدائم على خيارات كبرى تنعكس سلباً على كل البلد بدلاً من ان تكون انعكاساتها محصورة ومحدودة بشكل أو بآخر.
ولم يقتصر الإخلال بالمعادلات التي أرساها الطائف على هذا الجانب فقط، إنما تمّت الإطاحة أيضاً بمعادلة نهائية الكيان اللبناني مقابل عروبته لناحية انّ الرابط اللبناني مع العروبة يُزاوج بين اللغوي وعضوية الجامعة العربية التي تحترم سيادة الدول العربية، ولكنّ نهائية الكيان كمطلب مسيحي لم تتحقّق بفِعل بقاء الجيش السوري وسلاح “حزب الله” وعقيدته الدينية التي لا تعترف بحدود وكيانات وأوطان.
وتم الانقلاب أيضاً على معادلة الربط بين مشروعية السلطة الحاكمة وبين ميثاق العيش المشترك، بمعنى انّ مشروعية السلطة مستمدة من احترام هذا الميثاق الذي يرتكز على أربعة مبادئ أساسية: مبدأ الحياد الذي يشترط على المجموعتين المسيحية والإسلامية الابتعاد عن سياسة المحاور الخارجية وعدم الاستقواء بدول خارجية لتعديل موازين القوى الداخلية؛ مبدأ الدولة التي تشكل وحدها المساحة المشتركة التي تجتمع تحتها كل المكونات اللبنانية؛ مبدأ الانتماء والولاء إلى لبنان وحده ففي حال تناقضت أولوية عربية أو إيرانية مع الأولوية اللبنانية تكون الكلمة الفصل للأولوية اللبنانية؛ مبدأ الشراكة المسيحية-الإسلامية في التمثيل الصحيح والنظرة المشتركة إلى لبنان التي تجسّدت بوطن الرسالة والعيش معاً، وانّ عدم احترام صحة التمثيل والرؤية الموحدة لدور البلد يعني الذهاب إلى التقسيم.
وقد تمّت الإطاحة أيضا بهذا المطلب المسيحي التاريخي الوارد في مقدمة الدستور الفقرة (ي)، فلا الحياد أعيد الالتزام به، ولا الدولة استعادت مقوماتها الدستورية، وولاء بعض اللبنانيين تنقّل، وما زال، بين سوريا الأسد والولي الفقيه. أما الشراكة فحدِّث ولا حرج طالما انّ “حزب الله” يرفض تسليم سلاحه ويستأثر بقراري الحرب والسلم، فلا شراكة ولا من يحزنون.
وما تقدّم يُثبت بوضوح انّ الخلل الموجود في لبنان هو مِن طبيعة بنيوية وجوهرية، وهذا الخلل لا يعالج بالترقيع، إنما يستدعي ورشة سياسية فكرية تعيد صياغة لبنان الجديد، لأنّ نقطة ارتكاز الأوطان وقوتها هي التفاهم بين أهلها على شكل البلد الذي تريده ودوره في كل المجالات، ومن غير المسموح ان يستمر الخلاف حول مفاهيم تحولت إلى بديهية في الدول الحديثة الحريصة على شعبها ورفاهيته، فهل يعقل ان المفاهيم المؤسسة لأيّ دولة ما زالت موضع نزاع بين اللبنانيين من قبيل نهائية الكيان والسيادة والاستقلال والسلاح الواحد ومدنية الدولة ولامركزية إدارتها والأولوية اللبنانية التي لا يُعلى عليها وعلاقات لبنان الخارجية؟
ومن الواضح انّ هناك من يصرّ على الاستثمار في الفوضى وليس طبعاً حباً بالفوضى، إنما ضمن خطة مدروسة ومنهجية تهدف إلى تغيير الوقائع اللبنانية بالرهان على الزمن، باعتبار انّ عقيدة هذا الفريق الدينية تعتبر ان الوقت يعمل لمصلحتها، وأنها بسلاح الديموغرافيا النووي ستستطيع عاجلاً أم آجلاً تبديل المعطيات لمصلحتها، خصوصاً انّ وسيلة الفوضى التي تستخدمها ستؤدي إلى هجرات طبيعية تخدم هدفها الاستراتيجي.
وفي كل هذه الصورة القاتمة التي تستدعي التآلف بين الأحزاب الممثلة لبيئاتها وبين الرأي العام اللبناني العريض لمواجهة الفوضى المنظمة حفاظاً على لبنان التاريخي وسعياً لاستعادة دوره واستقراره، فإنّ الإجابة عن سؤال “من يرفض اللامركزية؟” أصبحت واضحة وجلية، حيث انّ مَن يرفضها هو نفسه الذي رفض تسليم سلاحه ومنع تطبيق الدستور وحوّل دور الدولة إلى دور شكلي وصوري وأسقط الحياد وأخَلّ بمبدأ الشراكة وأطاح بالميثاق، وسعى ويسعى إلى تهجير الناس في استراتيجية الفوضى المنظمة التي يعتمدها، وذلك سعياً لأسلمة الأرض والبلد على طريقة ولاية الفقيه الإيرانية.
وبمعزل عن أهمية اللامركزية عموماً في تسهيل حياة الناس وتحوّلها إلى معطى ثابت في كل الدول المتطورة، ما يعني انه من الأجدى على الدول الفاشلة ان تنتقل إلى اللامركزية، فإنّ اعتمادها في لبنان أصبح يتجاوز أهميتها الأساسية إلى أهمية مثلثة: وجودية للجماعات اللبنانية، جوهرية للحفاظ على لبنان التاريخي، وحتمية لإسقاط هدف الفوضى المنظمة.
ولا شك انّ اللامركزية بصيغتها المنصوص عليها في اتفاق الطائف لم تعد صالحة اليوم وتستدعي توسيعها إلى أبعد حدود ممكنة ليس فقط بفِعل مرور الزمن والتطور الذي فرضته تحديات الحياة مع الثورة التكنولوجية، باعتبار انّ ما كان يصحّ في ثمانينات القرن الماضي لم يعد يصحّ اليوم، إنما أيضاً، وهنا الأهم، بهدف الحفاظ على لبنان التاريخي الذي هناك من يعمل على تقويضه وتدميره.