IMLebanon

دعوات اللامركزية والفيدرالية: التقسيم المُقنّع!

 

 

 

ما الذي يعنيه منع فتاة مُحجبة من ممارسة حقها في العمل في مجمع كبير في منطقة «مسيحية» بيروتية؟ ماذا يعني منع شبان وفتيات من ممارسة حرياتهم في بعض المناطق «المسلمة» في الجنوب والشمال وغيرهما بينما يضمن الدستور اللبناني تلك الحريات لا بل كانت في صلب فكرة لبنان لإنشائه مُدعية فرادته وسط عالم عربي «موحش»؟!

 

من الواضح أن الأزمة أكبر من ممارسات فردية وقمع شخصيّ. هي تتعلق بطبيعة تفكير تاريخية داخل المجتمعات اللبنانية المُتعددة وخاصة هيمنة أخيراً التوجهات القمعية في مناطق «الصفاء» الطائفي، ما يشير إلى مدى التدهور الذي بلغه الكيان الذي لم يرتق الى مرتبة الوطن الجامع لأبنائه، على صعيد تقبل الآخر وسط حرب باردة بين الطوائف وقواها المهيمنة عليها، بما يظهر بوضوح فشل الصيغة اللبنانية منذ التأسيس في ما يشبه واقع مُفدرل واقعياً وإن لم يكن رسمياً.

 

طبعاً لا يجوز التعميم هنا، مثلما أن هذا لا يعني أن المقيمين في فيدرالياتهم يدفعون في اتجاه تقسيم البلد وحرب أهلية جديدة، فقد لا يتعدى ذلك إطار الأعراف الطائفية والمذهبية التي تتعمق كل يوم وسط سُعار طائفي يُنذر بما هو أسوأ.

 

على أن الخشية هي من أن تتخذ هذه الظاهرة من تزايد الدعوات الى الفيدرالية ذريعة لها. ولعلّ مُطلقي هذه الدعوات الجديدة القديمة، فضلاً عن كونهم يعتنقون أفكار اليمين اللبناني في القرن الماضي لا سيما في مرحلة النزاع الأهلي الدموي، يُظهرون جرأة على رفض الهزيمة التي حلّت بهم ماضياً لصالح اتفاق اللبنانيين على وحدة البلاد والأرض والشعب، وتسوية النزاعات مع اتفاق الطائف في العام 1989 الذي وضع حداً للحرب الأهلية.

 

ولعلّ تعالي هذه الأصوات في الساحة المسيحية لا يمثل في المقابل اعتناقا من قبل البيئة المسيحية لهذه الشعارات، مثلما أنه لا يعني عدم تقبل الفكرة من قبل طوائف أخرى بما لا يقتصر على لبنان بل يتعداه لمحيطه. لكن من الواضح أن المزاج الطائفي هذا ينحو في اتجاه التقوقع ووصل صداه الى أحزاب وتيارات «سيادية» تنادي بكيانية لبنان وبحفظه في إطار التنوع.

 

وكان لافتاً أخيراً عكس رئيس الجمهورية ميشال عون لهذا المزاج الإنطوائي عبر قذف فتيل اللامركزية المالية في وجه أخصامه، وهو بذلك أراد أن يحاكي بيئته نفسها بعد أن شعر بأن البساط قد سُحب منه بالفعل على أثر تعثر عهده نتيجة عوامل ذاتية تتعلق في فشل الحكم، وأخرى كيدية عبر محاربة الأخصام له وبينهم من يفترض أنهم حلفاء له.

 

والحال أن الامر لا يتعلق بمصطلح اللامركزية الذي نصّ عليه اتفاق الطائف، لكنه يتعلق خاصة في ما أُطلق حول «مالية» تلك اللامركزية الذي لم يأت الطائف على ذكرها تحديداً، وقد يكون هذا التجاهل ناجماً عن سهو المشرعين أو لافتراضهم أنها مسألة تحصيل حاصل لناحية مفهوم اللامركزية، أو لعلهم أرادوا ذلك عمدا كما غيره من المسائل لكي لا يظهر مصطلح اللامركزية بمظهر وكأنه يُغلِّب الجانب التقسيمي على الوحدوي.

 

واذا كان من غير الممكن تجاهل أهمية اللامركزية للتأسيس الى ما هو افضل للمجتمعات اللبنانية المتناحرة، فإن الطرح بذاته سيكون أصعب على الاستيعاب اليوم وسط اشتعال سياسي وصراع وجود للصلاحيات بين الطوائف اللبنانية، وفي توقيت دقيق تُصبح معه دعوة الى لامركزية مالية فاتحة لباب الفيدرالية نفسها وبالتالي الى ما هو أبعد منها في اتجاه التقسيم المُقنع، ما يشكل دليلاً على عدم الاتعاظ من كل ما جناه اللبنانيون في مرحلة الحرب الأهلية التي يتحملون قسطها الأكبر بما ينفي مقولة «حرب الآخرين على أرضنا» التي ما زالت رائجة حتى هذه اللحظة!

 

فما سيؤدي إليه انتخاب وحدات محلية ذات صلاحيات مالية في بلد هش كلبنان لم يرتق الى صفة الدولة أو الكيان الجامع الذي أراده المؤسسون (أو ربما لم يريدوا ذلك)، شهد حرباً اهلية ونزاعات محلية، ساخنة حينا وباردة أحيانا كثيرة، ووسط نزعة تقسيمية في المنطقة تغذيها التجاذبات الخارجية، هو التقسيم العمليّ عبر سلخ تلك الوحدات عن المركز وصولا الى استقلالية عن السلطة المركزية الهشّة..

 

ومهما كان شكل وعنوان ذلك فإنه سيؤسس الى مناطق شبه مستقلة تمتلك تشريعها المحلي وقوانينها التي ستثور عليها الأقليات ما يعني الانتقال الى حروب أهلية مصغرة وإلى حروب بين تلك الدويلات، ما سينتقل بالمجتمع اللبناني الى احتراب داخلي سيتخذ شكله الدموي ولن يستفيد منه أحد سيؤدي بدوره الى هجرة واسعة جديدة ستُفرغ لبنان من شرائحه المفيدة وستؤدي به الى انهيار وفشل دائمين..

 

سيدافع الفيدراليون عن مفهومهم وسيستحضرون تجارب عالمية وأخرى قريبة جغرافياً، لكن لبنان صغير جداً على تحمّل هذا النوع من الأنظمة، والحل المرحلي سيكون بتطبيق ما جاء به اتفاق الطائف من إصلاحات وعلى رأسها إلغاء الطائفية السياسية وتشكيل مجلس شيوخ للطوائف لتمارس فيه حروبها التي لا تنتهي.طبعاً في موازاة حماية الدولة اللبنانية الواحدة على أساس السلطة المركزية القوية وتعزيز العيش المشترك.

 

وأما البحث في المقابل على نظام جديد يكون عاكساً للتغيرات أو حتى للتبدلات الديموغرافية والسياسية والإقتصادية والإقليمية التي طرأت على المشهد منذ إقرار الطائف، فهو سابق لأوانه واستحضار لتوتر أهلي جديد واستقواء طائفي ومذهبي من قبل الأكثرية المسلمة، شيعية كانت أم سنية، على الأقليات الأخرى، وقد يؤدي بدوره الى تقسيم للبلاد والى حروب جديدة.