ما نصّ عليه اتفاق الطائف من «لامركزية ادارية موسعة» كان في طليعة ما دُفِنَ في الدُرج، ولم يخرج الى نور البلورة والإقرار فالتنفيذ. في غياب هذه اللامركزية، بل في غياب الاتفاق على تحديد ما هي، وهو غياب ممتد منذ أزيد من ربع قرن هي عموماً فترة من التاريخ خصبة بالتقدّم والتنوّع في ارساء وعيش ومراجعة تجارب اللامركزية في بلدان كثيرة، كل هذا يجعل مفهوم «الديموقراطية المحلية» مبهبطاً، بشكل غير مُقنع، على الانتخابات البلدية.
خلال هذا الربع قرن، جرت اللامركزية على الألسن، وبدت كلمة شعبية عند المسيحيين بشكل خاص، فالتشديد على أنها موسعة يجد عندهم آذان صاغية أكثر، والتشديد على أنها ادارية مقبول أكثر في اللغة «الكودية» لجمهور المسلمين، يبقى ان هذه اللامركزية المنصوص عليها في الطائف، والتي يفترض بها التقاطع مع المنصوص عنه في الطائف أيضاً من اعادة نظر بالتقسيم الاداري لسن قانون انتخاب جديد، كما يفترض بها التقاطع مع المستوى المحلي من الديموقراطية، البلديات وما اليها، بقيت لامركزية خطابية، مبتورة، غامضة، بعيدة عن الملموسية، طقوسية في لوازم الخطاب، الى ان فرضت أزمة النفايات الصيف الماضي الخوض فيها مجدداً بشكل مفتوح وواسع النطاق، وحينها شاعت في أوساط الحركة الاحتجاجية على الاستهتار الحاصل في هذا الملف، رغبة في الربط بين حل مشكلة النفايات، وتأهيل عمل البلديات، وبين اللامركزية.
لكن الربط اتخذ طابعاً تعبوياً غير مدرك لشروطه، فطرحت فكرة تمكين البلديات، وايلائها القسط الأكبر في معالجة النفايات وفرزها واعادة تدويرها بشكل ارادوي، معزول عن طبيعة التجربة البلدية اللبنانية، لا سيما في مجتمع بعد الحرب، ويفترض بأنّ هناك مساحة للمواطنين جدياً أكبر في البلديات مما هي في المجلس النيابي مثلاً.
المفارقة اليوم أنّه، في غمرة الاهتمام بمن سيصل لتبوّؤ المسؤوليات البلدية والاختيارية، يجري التعامل مع مسألة تمكين البلديات كمسألة لا تعني الانتخابات بحد ذاتها، وهو ما يجعل بامكان أي كان أن يقول بأنه نازلٌ الشوط كي يفعل كذا وكذا حين ينتخب، من دون أن تكون لديه حقيقة الصلاحيات لذلك في ظل غياب اللامركزية، واستمرار قبضة الدولة المركزية، الدولة المعطلة مؤسساتها والكثير من مرافقها ووظائفها، لكنها المنكمشة على نفسها، غير قادرة على منح هذا التفويض للسلطات المحلية الواقعية، ولمجالس الأقضية المنتخبة المفترضة، وكل هذا يجعل من «الديموقراطية المحلية» حالة «ديموقراطية محلية فيما لو أقرّت اللامركزية»، من دون أن يعطي الاستحقاق الراهن دوراً حيوياً في اعلان اللامركزية والانتقال اليه، ولا في اعتبار الفترة البلدية المقبلة فترة انتقالية في طول المجتمع اللبناني وعرضه للانتقال نحو اللامركزية، بدءاً من الوحدة الأصغر فيها، البلدية، ووصولاً الى وحدتها الأكبر، مجالس الأقضية، وما يستلزمه ذلك من الغاء مناصب ومستويات في الجهاز الاداري المركزي للدولة.
أن يكون الحديث عن اللامركزية تداولته الألسن بشكل متزايد قبل أشهر قليلة، يوم خرجت الناس للشارع على خلفية أزمة النفايات، ثم تلاشى الحديث عنها عشية استحقاق يعنيها بالفعل، فهذا يجد تفسيره في عناصر عديدة، يأتي في أوّلها أنّ كل شيء ينجح الخطاب السياسي العام في الاجماع عليه كشعار، يصبح شعاراً غير معدّ للاقرار والتطبيق، شعاراً وكفى، فقط مجرد كلمة توحي لدى بعض المسيحيين بأنها ميالة لهم، بشكل غامض، من دون أن يبدر من بينهم تحديداً ضغط جدي لارسائها، بل العكس: فالحيوية المتصلة بتحصيل «حقوق المسيحيين» تبحث الموضوع في اطار شديد من المركزية، فاقد لأي بعد من أبعاد الخصوصية الجغرافية: «الحصة» المطالب فيها غير قائمة في مكان يعرّفها.