خطوتان جبارتان الى الأمام في العشر سنوات الأخيرة: ثورة الأرز والثورة السورية. خطوتان جبارتان الى الخلف أيضاً: ثورة السلاح المضادة للأرز في لبنان، والتوازن الكارثي والدموي بين النظام والثورة في سوريا الذي أتى على أساسات المجتمع والكيان.
عشرية تمضي لا كمثلها عشرية. ما تحقق فيها لبنانياً لا تجوز المكابرة عليه: إسقاط نظام الوصاية العسكرية والمخابراتية، نظام الخوف والإذلال وتدمير العلاقات بين الشعبين وجزية الضباط الأسديين المفروضة على الاقتصاد اللبناني.
ما لم يتحقّق تجوز في تفسير خلفية التخلف عنه ثلاثة وجوه: أما مشكلة إرادة وعزم وتصميم، وإما أزمة غياب رافعة اجتماعية صلبة، وإما صغر حجم البلد وحساسية تركيبته وغموض حدوده.
وقد درج في أوساط ما عرف في هذه السنوات بالتيار السيادي أو بالحركة الاستقلالية حصر التحدي بالوجه الأول. فكثرت الدعوات «الاستنهاضية» التي تتمثّل اللحظات الأكثر جماهيرية واحتدامية في عام ألفين وخمسة، وجرى التعامل مع الوجه الثالث، أي حجم وموقع البلد، كقدر يبيح الإطاحة بالمعايير الواضحة في السياسة، واستبعد الى حد بعيد أي استفهام جدي عن القوى الاجتماعية.
ما هي القوة المؤسسية الطليعية في عملية تقويض الوصاية السورية؟ الكنيسة المارونية.
ما هي القوة المؤسسية الطليعية في عملية الدفع باتجاه تسوية تاريخية لموضوع سلاح «حزب الله» بما يحفظ مرجعية الدولة وقرارها في الحرب والسلم وحاكمية قانونها على أراضي الجمهورية؟ لا جواب.
ما هي الطائفة الطليعية في عملية تقويض الوصاية السورية؟ هنا كان دور الكنيسة وإرشادها مهماً: ينبغي ان لا ينغرّ المسيحيون بكونهم تلك الطائفة الطليعية، لأنه إذاك لن يكون ممكناً تشكيل القاعدة الاجتماعية والكيانية والميثاقية لإسقاط الوصاية. شعارات السيادة كانت منطوية مسيحيا على نفسها قبل صياغة الكنيسة للأهداف الاستقلالية بروح ميثاقية اسلامية – مسيحية، تأخذ بشكل رئيسي في الحسبان، الطبيعة الاستثنائية لظاهرة الرئيس الشهيد رفيق الحريري. أما بعد الإرشاد، وبشكل أساسي بعد انتخابات الفين، التي شكلت ضربة للوائح شبكة «النظام الأمني»، وبيان مجلس المطارنة الموارنة، فقد حدث الفارق الأساسي: العمل المسيحي الإسلامي المشترك، السياسي ثم الجماهيري لإسقاط الوصاية.
ما هي الطبقة الاجتماعية الطليعية في عملية تقويض الوصاية السورية؟ بشكل اجمالي يمكن القول انها الطبقة الوسطى أولاً، والحراك الثقافي والمدني المعبر عنها يبين ذلك في خطه التراكمي خلال عهد الوصاية. لقاء قرنة شهوان عبر أيضاً الى حد كبير عن هذه الحيثية. لكن عندما لم تعد شروط الوصاية تطاق، وصارت شروط التوسع الاسلامي – المسيحي برحيلها متوفرة، ومعها المناخ الدولي والعربي المواتي، صار هناك أيضاً «إجماع طبقي» على الإطاحة بالوصاية، وهكذا فإن يوم الرابع عشر من آذار كان أيضاً يوم اجتماع طبقات اجتماعية مختلفة الدخل والثروة في ساحة جماهيرية واحدة، وليس فقط طوائف ومذاهب.
ما هي الطبقة الاجتماعية الطليعية المعلّق عليها الأمل، في المقابل، لإخراج البلد من الأزمة الحالية بعناوينها كافة، بدءاً من الشغور الرئاسي وصولاً الى رزمة موضوعات «السلاح»؟ لا جواب. لا جواب خيرٌ من جواب انشائي لا يقدّم ولا يؤخّر. لكنه لا يعفي، بل يوجب، الشروع في طرح السؤال. فهل نحن أمام قوى لا تقوم بدورها؟ أم نحن أمام أدوار تغيّب القوى التي يمكن أن تنهض بها؟ الاثنان معاً؟ ربما.
لقد ًعلق الخطاب السيادي اللبناني في الكثير من الارادوية. والارادوية المفصولة عن مساءلة الكتل الاجتماعية والطبقات والطوائف والمناطق والاجيال سريعاً ما تُحبط. تارة تناجي إرادة الزعماء. تارة إرادة الجماهير. تارة ارادة الأفراد. ثم تخلد الى التسليم والقنوط.
هل كان هناك جدياً من كان يتوقع ان يحل موضوع سلاح «حزب الله» في بضعة اشهر بعد انسحاب الوصاية؟ لا. هل كان هناك من كان يتوقع أن يكون موقف كل الأطراف ايجابياً من المحكمة الدولية؟ لا. طبعاً، التوقع الصلب والجماهيري والذي لم يتحقق كان إسقاط اميل لحود وتقصير أمد التمديد له. تلك كانت بالأحرى الخيبة الحقيقية المنبئة بخيبات سيشهدها الربيع العربي لاحقاً: عندما تنتفض في ثورة وقبل ان تبحث في تغيير العالم، أو عن إقامة ديموقراطية أو خلافة او ما أردت، عليك بالقصر فحرّره. في الرابع عشر من آذار، لم تكن هناك قوة طليعية للدفع بهذا الأمر دون أان تجيب على أحد. كان هناك أفراد طليعيون فقط، وهذا لا يكفي.