Site icon IMLebanon

صُنّاع قرار وصُنّاع نقاش

أتَّهمُ بعضَ أوساط المعارضة “العلمانية” السورية بفرض إرهاب على مسار النقاش في الخارج حول مسارات الوضع السوري لا يقل، من حيث النتائج لا الأدوات، عما يفرضه النظام الأمني البعثي في الداخل.

ينتقل النقاش في الغرب في بعض مراكز الأبحاث المهتمة بالشرق الأوسط إلى مرحلة جديدة أكثر عمقاً في إعادة التفكير بالبنية السياسية لمنطقتنا.  “مرحلة جديدة” من حيث هي أخذت تتجاوز ما يمكن تسميته “تحليلات ردود الفعل” المبتهجة التي سادت بعد اندلاع ثورات “الربيع العربي” و”تحليلات ردود الفعل” المكتئبة بعد بدء الانهيار السوري “العظيم” وبالتوازي معه الانهيارات العراقي وطبعا الليبي واليمني.

بدأت تُطرح أسئلة لا تقلق على مصير “سايكس بيكو” أو تنعاه فحسب بل أبعد من ذلك في التفكير بأسس دول المنطقة وتحديدا المشرقية وبنية مجتمعاتها. أسئلة بعضها يجيب بنقد البنى المحلّية التي قامت عليها الدول الجديدة بعد الحرب العالمية الأولى وتحميل هذه البنى اليوم – وليس الاتفاق البريطاني الفرنسي يومها – مسؤولية الانهيارات الحالية أو التي يبدو أنها قادمة من حيث عجز المجتمعات ونخبها عن تحقيق التقدم والاستقرار. وأسئلة أخرى أخذت تراجع معنى الوطنيّات نفسها وتحولاتها، الكردية السورية العراقية اللبنانية الفلسطينيّة. وثالثة حول معنى الانتماءات. حتى في الصحف الغربية اليومية الكبرى ولا سيما الأميركية صار عدد التعليقات التي تطرح جذرياً كل الأسس التي قامت عليها المنطقة لحوالي المائة عام المنصرمة أكثر حضوراً وتأملاً “بنيويا” يتخطى مجرد العادي أو التعبوي.

نحن هنا صحافيين وأكاديميين وباحثين في المشرق أو في المنطقة العربية من ليبيا إلى الهلال الخصيب والعراق واليمن والخليج  نطرح أيضاً أسئلتنا ولكنْ مع الأسف ولأننا “مادة” صراع  فلا نبدو ولا نستطيع أن نكون “طرفا” جدّياً في هذا النقاش الفكري البحثي الغربي الذي يدور علينا لا معنا فعلياً في مراكز الأبحاث ودوائر التفكير الجامعية المهتمة بالشرق الأوسط.

كالعادة لوم الغرب لا يكفي بل هو مضلِّل. لأن المشكلة تبدأ فينا.

المسألة تتعلّق بمصائرنا. ورغم أنني أدّعي أنني متابعٌ لبعض أبرز النشاطات الفكرية والبحثية في العالم العربي فإنني لا أستطيع أن أذكر فكرةً واحدة استراتيجية أو مفهوما واحدا جديدا يتعلّق بأزمات منطقتنا غير المسبوقة ذا مصْدرٍ عربي فرض حضوره في السنوات الأخيرة على منابر البحث الغربية ضمن ما يُتاح لي نسبيا الاطّلاع عليه من هذا النمط من الفعاليات.

نحن في المنطقة أطراف في الصراع فيها وعليها طبعاً، ولكننا لسنا أطرافاً في “النقاش” حولها إذا جاز لي التمييز بهذه الطريقة. بهذا المعنى للغياب الفكري السجالي نحن مادة صراع  وليس حتى أطرافَ صراع.

الذي يحول دون تحقيق نخب المنطقة المشارِكة هذه القدرة على “صناعة” النقاش، ليس فقط الهوة الشاسعة التي باتت قائمةً بين قوى المنطقة والقوى العالمية الكبرى المسيطرة عليها باعتبارنا نشهد ما يمكن أن يكون الانهيار “النهائي” حاليا، بل أيضاً لأنّنا في ذروة الصراع الذي أصبح حروباً أهلية ساخنة وصافية نمنع أنفسنا بل نمارس إرهابا على بعضنا البعض لا يتيح طرح الأسئلة الجذرية.

أعطي مثلاً في الحروب الحالية المدمِّرة:

هل هناك فعلاً وطنيّة سوريّة؟ هل هناك وعي وطني سوري؟ لأن الأزمة كشفت عن أنه لا بنية وعي وطني متماسكة في سوريا مثلما كشفت الأزمات العراقية المديدة، لا سيما بعد تحوّل عام 2003 أن كل الرهانات بل الادعاءات وفي أحسن تقدير التخيّلات حول “ضوابط الوطنية العراقية” ظهرت واهيةً مثل “ضوابط الوطنية السورية” التي أرهق أسماعَنا بها المثقّفون الأصدقاء السوريون وقبلهم المثقّفون الأصدقاء العراقيون. بل السؤال الأكثر استفزازا: هل هناك وطنيّون سوريّون؟ وسبق لنا نحن اللبنانيين أننا اختلفنا على معنى الوطنيّة اللبنانيّة وثبُتَ أن المعنى الذي كان الأكثر شيوعا وفعالية للوطنية اللبنانيّة هو أنها وطنية غير وطنية!

من يستطيع البحث، مجرد البحث، اليوم  في سؤال بدأ يطرحه مثقّفون غربيون:

هل يستحق التغيير الديموقراطي في سوريا كل هذا الثمن التدميري؟ هل هناك مهمة أكثر عقلانيّة (ونُبلاً) في الوضع الحالي من وقف الحرب في سوريا بأي ثمن؟

وهذا غيض من فيض. لكني أتهم هنا بعض أوساط المعارضة “العلمانية” السورية بفرض إرهاب على مسار النقاش في الخارج حول مسارات الوضع السوري لا يقل، من حيث النتائج لا الأدوات، عما يفرضه النظام الأمني البعثي في الداخل.

لن يقبل عديدون من “أبناء جلداتنا” هذه الأسئلة ولن يعترفوا بها… إلا عندما ستصل من عواصم الغرب ومراكز أبحاثها. سيشاركون عندها وسيبحثون في ماهيات وجودهم كأننا عدنا اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا وثقافيا موادَ خاما يعاد البحث حاليا في تركيبها بعيدا عن المنطقة. (راجع كنموذج عن مسار بعض الدراسات الجديدة:

(Rethinking Nation and Nationalism – june 2 – Project on Middle East Political Science)

سبق لي أن كتبتُ قبل فترة وجيزة “كلنا مرتزقة” (6 حزيران 2015). فاتني يومها أن أعنوِن بما أَعْتَقِد أنه أصح: كلنا مرتزقة حضاريّاً.

الخسارة كاملة لأننا حاليا نخسر آخر هوياتنا الحديثة. ودائما، كما كتب مثقفون كبار في الغرب مرارا، فإن الصمت والإرهاب هما اللذان يميِّزان المراحل الأكثر اسودادا من التاريخ.