إنضم لبنان عبر حدوده الجنوبية الى الصراع الدائر في غزة بعد يوم واحد من إنطلاق عملية طوفان الأقصى تحت عنوان مساندة المقاومة في غزة، وما لبث الحوثيون أن الحقوا أنفسهم بما يجري في 19 تشرين الثاني/ نوفمبر عبر مسيّرات ومقذوفات أُطلقت على سفن تجارية تعبر البحر الأحمر ومتجهة إلى إسرائيل تحت عنوان وقف العدوان على غزة. المناوشات على الحدود الجنوبية مع العدو الإسرائيلي التي انهت مئويتها يوم أمس كما الهجمات الحوثية التي بلغ عددها 27 هجوماً وتأثرت بها أكثر من 50 دولة لم تقدم أية إضافة ميدانية للعناوين المرفوعة، ولكنها تؤكد كل يوم على الحضور الإيراني في المشهد الإقليمي بالرغم من تنصل طهران من أي دور لها في طوفان الأقصى أو من أية وصاية لها على فصائل الممانعة وخياراتها الميدانية.
طهران الحاضرة في كل الميادين تقاتل بسواعد ودماء كل من اصطفوا خلف ولاية الفقيه من البحر الأحمر حتى البحر المتوسط مروراً بسوريا والعراق ولبنان، هي من يختار لهم الأهداف وأولها إخضاع حكوماتهم ومؤسساتهم الدستورية والأمنية لقوة الأمر الواقع وتحويلها الى قوى محلية رديفة لهم. في غزة يقاتل المقاومون الفلسطينيون بوحدتهم وبكل ما لديهم من إمكانات عدواً محتلاً مجرماً لاستعادة حقهم في وطن اغتصبه إجماع الإرادات الدولية منذ منتصف القرن الماضي لصالح مشروع صهيوني يؤمن مصالحها، أما في باقي الميادين فتُهدر الأوطان وتستباح ساحاتها ومؤسساتها وتسقط كل اعتبارات الوحدة الوطنية ويسحق القرار الوطني الجامع ويقتاد المواطنون الى خيارات لها عناوينها الجاذبة دون أن يسألوا فيها مهما بلغت حدود المخاطر على الوطن.
يتشارك اللبنانيون جميعهم قلقاً عارماً على مستقبلهم في متّحد سياسي يتعرضون فيه لكل أنواع الإملاءات من قبل قوة قاهرة تتصدر المشهد، تصادر الوطن وتتخذ عنهم كل القرارات وتقصيهم عن أي نوع من المشاركة قبولاً أو رفضاً. تشعر شريحة كبرى من اللبنانيين أنها تُقتاد قسراً إلى وطن لا يشبهها فرضته لعبة إقليمية ودولية، ويساورها الشك حيال شراكة وطنية تفرض قيودها وشروطها ويمعن الشريك في تطويعها وإلزامها بتحالفاته الإقليمية ودوره الريادي وفرادته.
من جهة أخرى يعيش اللبنانيون عينهم حال من الذهول وتساورهم الشكوك حيال هذا الصمت الرسمي على مستوى المؤسسات الدستورية والمجموعات السياسية أمام قرارات الحرب التي يطلقها حزب الله، وآخرها ما أعلنه أمينه العام بالأمس حول الإستعداد للحرب دون سقوف أو ضوابط ودون حدود. طبعاً المسألة ليست في مواجهة من يعتدي على لبنان وفي تداعيات ذلك بل في هذه الإستباحة التي لا حدود لها لكل ما يمت الى واجبات الحكومة والمجلس النيابي في حماية اللبنانيين وإلى دورهما في اتّخاذ القرارات ووضع الآليات اللازمة لذلك. يعزو البعض من المسؤولين هذا الصمت الرسمي والسياسي حيال الدور الذي يلعبه حزب الله الى التجارب المريرة التي عاشها لبنان منذ العام 2005 والتي دفع معارضو الحزب أثماناً باهظة لمواقفهم، حيث اضطروا بعدها الى تقديم تنازلات سياسية عندما تبيّن لهم أن تقاطعات المصالح الإيرانية الأميركية في الإقليم لها الأولوية على موجبات السيادة الوطنية وأن تكرار التجربة في ظل هذه الفوضى الإقليمية قد تؤدي الى إخراجهم من المعادلة.
وفيما يتبحر السياسيون في ما يجري في الإقليم علهم يتبينون حقيقة المواقف الأميركية التي فقدوا ثقتهم بها يستمر حزب الله في مصادرة القرار الوطني، ويتيقن اللبنانيون يوماً بعد يوم أن مؤسساتهم الدستورية والأمنية قد انكفأت الى ما دون مستوى الدولة وأنها تحولت الى تجمعات لزعامات ريفية يقتصر دورها على الجباية واسترضاء القوة القاهرة بما يعيد إلى الأذهان نظام المقاطعجية الذي عرفه لبنان في عصر السلطنة العثمانية.
فهل ينتظر اللبنانيون من المقاطعجيين الجدد استعادة قرار السلم والحرب؟
* مدير المنتدى الإقليمي للدراسات والإستشارات