خيراً فعل ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في دمجه للقمتين العربيَّة والإسلاميَّة في قمَّة واحدة والتي انعقدت في الحادي عشر من الشهر الحالي وخصصت حصراً لتدارس الحرب الهمجيَّة التي تشنّها إسرائيل على قطاع غزَّة، وهي إن تكن مقرَّراتها لم تأتِ على قدر طموحات الشعب العربي الذي تتصدر القضيَّة الفلسطينيَّة اهتماماته، والتي أحيت عمليَّة طوفان الأقصى لديه الروح المعنويَّة التي لطالما افتقد إليها، كما أعادت فظاعة المجازر الانتقاميَّة التي ارتكبها آلة الممارسات الشنيعة الإسرائيليَّة بحق الأبرياء ودور العبادة والمستشفيات، وما أبداه السياسيون الإسرائيليون من تغطرس الصورة الحقيقيَّة الوحشيَّة للكيان الإسرائيلي لدى من خانتهم الذاكرة، كما أظهرتها أيضاً بوضوح للأجيال الناشئة، ليس فقط على مستوى الشعوب العربيَّة إنما على مستوى العالم أجمع.
قد تكون المآخذ كثيرة على روحيَّة مواقف القادة العرب وفي الدول الإسلاميَّة أو حالة الصمت التي انتابتهم حيال ما يحصل في غزَّة، بدءاً بالمهلة الزمنيَّة الطويلة الفاصلة ما بين تاريخي اندلاع الحرب وانعقاد القمة، انتهاءً بمقرراتها المتواضعة، مروراً بالخطابات الإنشائيَّة التي أدليت خلالها، إلَّا أن ذلك ينبغي ألا يثنينا عن قراءتها بروحيَّة موضوعيَّة متجرِّدة، والنَّظر إلى النصف الملآن من الكوب، آخذين بعين الاعتبار الأوضاع العالميَّة والإقليميَّة وواقع الدُّول الإسلاميَّة، والوضع العربي المفكك وغير السَّوي والتي تحول جميعها دون اتخاذ قرارات على قدر الحدث ومخاطره.
ربّ قائل: «إن كياناً غاصباً همجيًّا متغطرساً لا يولي اهتماماً لأي من القيم الإنسانيَّة، ويستسهل خرق المواثيق الدَّوليَّة، ويضرب عرض الحائط القرارات الدَّوليَّة، ولا يتورَّع عن ارتكاب أبشع الممارسات بحق الأبرياء وبخاصَّة الكهلة والنساء والأطفال، ولا يعتمد سقفاً لانتهاكاته وإجرامه من حيث الكم والنوع، بل يعتمّد التنكيل بالمدنيين وإلحاق أكبر قدر من الأضرار في الممتلكات العامة والخاصَّة وسيلة لتحقيق مآربه، لا يليق به سوى مُقارعة بذات الأساليب الهمجيَّة التي يعتمدها، والتَّصرف معه وفق مبدأ «العين بالعين والسن بالسن»، إلاَّ أن هذا الأمر، عدا عن كونه لا أخلاقي ولا إنساني، فهو ليس بمقدور عليه عربيًّا وإسلاميًّا خاصَّة في ظل حالة التَّشتت التي تعاني منها الدول العربيَّة، وعدم التَّماسك بين الدول الإسلاميَّة، ونظراً لما يلقاه هذا الكيان من دعم غربي وأميركي غير محدودين، قد يدفع بالأمور إلى حرب دوليَّة على امتداد منطقة الشرق الأوسط، لأن كل المعطيات توحي بأن المجتمع الغربي بغالبيَّته زاد بتهديداته ومتورط بما يتعرَّض له الشعب الفلسطيني في غزَّة من جرائم حرب وإبادة جماعيَّة وجريمة ضد الإنسانيَّة، ويتحمل أخلاقيًّا وزر دعمه العسكري واللوجستي والسياسي للكيان الإسرائيلي.
وبالعودة إلى القمتين «المدغمتين» والمقررات التي انبثقت عن أعمالهما، والتي كادت أن تصدر بالإجماع لولا تحفّظ كل من تونس والعراق على أمور أقرب إلى الشَّكلية منه للجوانب الموضوعيَّة، وإن كان لافتاً حضور الرئيس الإيراني معتمراً الكوفية الفلسطينية، مبدياً تعاطفه حماس بإشارته إلى أن أيادي وسواعد مجاهديها تستحق التقبيل، والذي قوبل في متن المقررات بإشارة تؤكد على حصر تمثيل الشعب الفلسطيني بمنظمة التحرير، ورغم خطابه الحاد النبرة لم يستطع إخفاء تملص دولته من شعارها القائل بوحدة السَّاحات.
حرص المجتمعون بتضمين ديباجة القرار ما بأن القضيَّة الفلسطينيَّة مسألة مركزيَّة للدُّول الإسلاميَّة والعربيَّة، وأنها تقف مجتمعة بكل إمكاناتها مع الشعب الفلسطيني، كما على حقَّ هذا الشَّعب في تقرير مصيره، والعيش في دولة مستقله ذات سيادة على أرضه وفق خطوط عام 1967، وعلى استحالة تحقيق السلام بتجاوز القضيَّة الفلسطينية أو تجاهل حقوق الشعب الفلسطيني، والتأكيد على اعتماد مبادرة السَّلام العربية كمرجعية أساسيَّة لحل القضيَّة الفلسطينيَّة وإرساء حل شامل ودائم لحالة الصراع العربي – الإسرائيلي.
أما محتويات القرار فأدرجت في واحد وثلاثين بنداً؛ أولها تحميل إسرائيل، كسلطة احتلال، مسؤوليَّة استمرار الصراع وتفاقمه، أما باقي البنود فتمحورت حول كسر الحصار وإدخال المساعدات الإنسانية، ومطالبة مجلس الأمن الدولي بالقيام بواجباته لجهة اتخاذ قرار حاسم يفرض وقف العدوان ووقف انتهاكات سلطات الاحتلال للقانون الدَّولي والإنساني والشرعيَّة الدَّوليَّة، وإدانة التدمير الهمجي للمستشفيات وقطع الكهرباء والمياه أو منع إدخال الدواء والوقود والغذاء إلى قطاع غزة، وعدم توفير الخدمات الأساسيَّة للقاطنين فيه. كما الطَّلب من مدعي عام المحكمة الجنائية الدَّوليَّة استكمال التحقيق في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانيَّة التي ارتكبتها وترتكبها إسرائيل ضد الشَّعب الفلسطيني.
كما تضمن القرار استنكاراً لازدواجيَّة المعايير في تطبيق القانون الدَّولي، وإدانة تهجير سكان قطاع غزة داخل القطاع أو إلى خارجه، ورفضاً لمختلف أنواع التهجير أو النفي أو الترحيل القسري للشعب الفلسطيني، كما إدانة قتل المدنيين أو استهدافهم بأعمال حربيَّة، والتأكيد على إطلاق سراح الأسرى والمعتقلين، ووقف الأعمال الإرهابيَّة والاعتداءات على المقدسات الدينيَّة ودور العبادة وإدانتها.
ولم يغفل القرار إدانة العمليات العسكريَّة التي تشنّها قوات الإحتلال ضد المدن والمخيمات الفلسطينية، واستعمال الأسلحة المحرّمة دوليًّا، والتهديد باستخدام السلاح النووي، كما الأعمال الإرهابيَّة التي تستهدف الفلسطينيين، بما في ذلك قتل الصحفيين، والنساء والأطفال والمسعفين، بالإضافة إلى ذلك عمدوا إلى تكليف أمانتي جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي إنشاء وحدتي رصد إعلامية لتوثق جرائم الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني. ولم يفتهم التطرق إلى الجوانب الماليَّة لجهة توفير ما يلزم من مساهمات ودعم مالي واقتصادي وإنساني للحكومة الفلسطينيَّة ووكالة الأونروا، وكل ما يلزم لإعادة إعمار غزة والتخفيف من آثار الدمار الشامل فور وقف العدوان الإسرائيلي.
وقد أكَّد القرار على جملة من الأمور أهمها: ضرورة تحرك المجتمع الدولي فوريا لإطلاق عملية سلمية جادّة وحقيقية لفرض السلام على أساس حل الدولتين على نحو يلبّي الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، التمسّك بالسلام كخيار إستراتيجي لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي وحل الصراع العربي – الإسرائيلي وفق القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية، وضرورة تنفيذ إسرائيل لالتزاماتها بصفتها سلطة احتلال، ووقف جميع إجراءاتها اللاشرعية التي من شأنها تكريس الاحتلال، كبناء المستوطنات وتوسعتها، ومصادرة أراضٍ فلسطينية، وكذلك التأكيد على وحدة المرجعية الفلسطينية واعتبار منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، ورفض تكريس فصل غزة عن الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية.
واللافت في القرار تبنّي المشاركون لمقاربة سلمية لحل القضية الفلسطينية بتضمينهم إياه بنداً دعوا فيه إلى عقد مؤتمر دولي للسلام، في أقرب وقت ممكن، لإطلاق عملية سلام ذات مصداقية على أساس القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية، على أن تقوم على مبدأ الأرض مقابل السلام بضمانات دولية. ودعموا ذلك بتشكيل ما أشبه بلجنة، شُكّلت من بعض وزراء خارجية الدول المشاركة وفي طليعتهم وزير خارجية المملكة العربية السعوديَّة، كلفت بالمبادرة فوراً إلى تحرك دولي هادف إلى وقف الحرب على غزة، وإطلاق عملية سياسية جادّة وحقيقية لتحقيق السلام الدائم والشامل.
وإن كنا لم نكن نتوقع من هذه القمَّة إعلان الحرب، ولا نحبِّذ ذلك، إنما كنَّا نتمنى لو تضمنت مقرراتها مواقف أخرى خارج إطار الإدانة، والإستنكار والتَّشديد والتمني والمطالبة، تنمّ عن توجيه رسائل حاسمة وتعبّر عن صلابةِ في الموقف تجاه ما حصل ويحصل في غزة.
وننهي بالقول: إن العالمين العربي والإسلامي قد أظهرا عجزاً عن لجم العدو بمجرد تحديد سقف المقررات بالمطالبة بوقف العدوان والسماح بإدخال المساعدات الإنسانيَّة، ورغم ذلك نرى أن المقررات الختامية تصلح لأن تعتمد كمسودةٍ لخريطة طريق ترعى حلًّا شاملاً ودائماً للصراع العربي – الإسرائيلي وللقضيَّة الفلسطينيَّة على وجه الخصوص، وفقاً لروحية القرارات الدَّولية ذات العلاقة، واستكمالاً لمبادرة السلام العربيَّة التي أقرّت وأطلقت خلال أعمال قمة جامعة الدول العربية التي عقدت في بيروت عام 2002، وهذا ما نأمل أن يعمل عليه المولجون بمتابعة تنفيذ المقررات.
* عميد متقاعد