هاجم «متطرفون» إسلاميون فرنسيون جريدة تهكمية لأنها تناولت مقدساتهم. لكل دين مقدسات وكل دين يضمر الاحتقار لمقدسات الأديان الأخرى؛ وهذا أمر متوقع، وإلا صار الجميع في العالم أتباع دين واحد. وللكل الحق بالسخرية، وهذا يشمل الجميع. في الغرب يسخرون من المقدسات المسيحية كما اليهودية كما الإسلامية. هذا حق مكتسب باسم حرية الرأي. عندنا لا يجرؤ أحد على السخرية من مقدسات الآخرين؛ وبعض الأديان أشد نضالية في الدفاع عن مقدساتها. بالطبع، يتوجب على كل من يتمتع بالحد الأدنى من التحرر إدانة كل مواجهة للرأي بالعنف. والسخرية رأي. والذين واجهوا الرأي بالعنف عندنا أو في الغرب يجب أن يدانوا. مواجهتهم ضرورية على درب التحرر.
لكن «غزوة باريس» هي مشكلة فرنسية قام بها مواطنون فرنسيون. وعلى فرنسا أن تدفع ثمن وجود هؤلاء عندها؛ ولا يخفى وجود اليمين الديني المتصاعد قوة فيها. ونحن أيضاً في بلادنا ندفع ثمن التطرف الديني «داعشاً» و «قاعدة» وخراباً وحروباً أهلية.
أما أن يقال إننا نحن من يجب أن يدفع ثمن ما حدث في فرنسا فهو أمر مرفوض، وهو فوق طاقتنا. والتصريحات الصادرة عن فرنسيين، بعضهم فلاسفة، بأن على مسلمي الاعتدال حول العالم التدخل بشكل ما لردع هؤلاء الإسلاميين الفرنسيين ومواجهتهم، هي أشبه بالقمع الذي يفترض أن المسلمين حول العالم كتلة واحدة ذات تنوع بين معتدلين ومتطرفين، وما بينهما. وهذا القمع يفرض على من صُنفوا في خانة الاعتدال أن يعملوا في صف النظام الذي أنتج المسلمين المتطرفين، وتحت إمرة من يواجهونهم. وما شعار «كلنا شارلي» إلا محاولة قمع، مقصودة أو غير مقصودة. نحن ندين أصحاب «غزوة باريس»، لكن معالجتها شأن فرنسي. المطلوب من النظام الفرنسي أن «يقلع شوكه» بيده. ولا يكون ذلك بحملة تضامن أو تحريض عالمية ربما تقود إلى نتائج مماثلة لما بعد «11 أيلول» الأميركية.
ربما كان التطرف الإسلامي نتاج «ثقافة إسلامية» لها تفسيرات معينة في ظروف اجتماعية وتاريخية محددة. من يعتقد بامتلاكه الحقيقة المطلقة يعرّض نفسه لرفع بعض الرموز إلى مستوى المقدس ويعمل لفرض مقدسه على الآخرين. مواجهة الرأي بالعنف تبقى جريمة مهما كان الأمر. وعجز الإنسان عن إيجاد مقدس مشترك هو كارثة ناتجة عن تعدد الأديان.
يلاحظ المرء أن الكلام عن العولمة قد هدأ ضجيجه. كان الرأي السائد خلال عقود من السنين أن العولمة فتحت الأبواب، بما هو غير مسبوق، للتبادل التجاري والثقافي، وأن هذا سوف يحول العالم إلى قرية واحدة.
لم يحدث هذا الأمر؛ وما حدث هو عكسه تماماً. أنتجت العولمة إحيائيات دينية في كل مكان؛ وهي تتخذ أشكال العنف والحروب الأهلية في بلادنا العربية. لم تكن العولمة مشروعاً للإنسان، مكرسة لخدمته، بل جعلته يخضع لقوى لا يفهمها. ومن يراقب بورصات العالم وتقلباتها واختلالات النظام الاقتصادي يزداد جهلاً. مع ازدياد الجهل يتفاقم الاعتماد على الغيبيات. ومن رأى اللبنانيين يتسمرون أمام شاشات التلفزيون لسماع المنجمين ليلة رأس السنة يدرك ذلك.. ربما كان الاعتماد على المنجمين شائعاً في أنحاء العالم الأخرى. برغم تقدم العلوم الإنسانية والمادية تتراجع قدرة الناس على فهم العالم وصنع المستقبل.
التكنولوجيا الحديثة، الإنترنت وغيرها، توفر معلومات كثيرة ومعرفة قليلة. المعرفة ليست المعلومات، بل الربط في ما بينها. غريب أن يزداد الجهل مع تزايد المعلومات. يكاد الإنسان يفقد قدرته على الربط بين الأسباب والنتائج. المعلومات متوفرة لدى الجميع، والمعرفة محصورة بنخبة يتقلص عددها. هناك مراكز أبحاث وهي تنتج معرفة لكنها تبقى محصورة لدى كهنوت العلوم.
ربما استطاعت وسائل الضبط والتحكم (المخابرات) الفرنسية معرفة الفاعلين بسرعة. لكن الكارثة الكبرى ستحدث في ما لو سيطر المتطرفون على بعض الأسلحة الأكثر فتكاً. جرى تدمير العراق بسبب كذبة حول سلاح الدمار الشامل. وتقول القصة الشعبية إن الراعي ظل يكذب المرة بعد الأخرى، إلى أن جاء الذئب ولم يصدقه أحد فأكله. وسيكون الذئب هذه المرة أكثر قدرة تقنية. ربما أتى من الغرب الأكثر تقدماً لا من الشرق الأقل معرفة تقنية.
لا بد من التمحيص في معنى كلام الفيلسوف الفرنسي الصهيوني بأن الهجوم على الصحيفة الباريسية هو «إعلان حرب»!