IMLebanon

تراجع الحس القومي فجر نزاع «الهويات القاتلة»!

 

كان من الضروري أن تثار وتطرح هذه المسألة المهمة فعلاً، أي مسألة صراع الهويات وتصادمها وتعذر قدرتها على التعايش، في هذه الفترة حيث غدت، وللأسف، منطقتنا العربية ساحة، بل ساحات، لحروب طاحنة بدوافع مذهبية وطائفية بغيضة وبعضها الآخر نتيجة لنزاعات عرقية «انشطارية» ولعل ما يجري في اليمن وفي العراق وسوريا ولبنان وليبيا وما كان جرى في السودان هو الدليل على هذا وعلى أن الوطن العربي قد دخل مرحلة مريضة لا أحد يعرف كيف ستنتهي وأي مستجدات «ديموغرافية» وسياسية ستترتب عليها.

وهنا فإن ما تجب الإشارة إليه هو أن ظاهرة «التشظي» هذه إنْ بدوافع دينية ومذهبية أو بدوافع عرقية لا تقتصر على العرب والمنطقة العربية فهناك دول أوروبية عريقة، مثل بريطانيا ومثل إسبانيا ومثل فرنسا أيضًا، لم تسلم من هذه الظاهرة، وقصة الاستفتاء الأخير الذي جرى في أسكوتلندا لا تزال ماثلة للعيان، والمعروف أن القارة الأفريقية شهدت ولا تزال تشهد مذابح على أساس صراع الانتماءات والهويات، ولعل ليس أبشعها تلك المجازر التي شهدتها رواندا بين أكثرية الهوتو وأقلية التوتسي، وذلك مع أن الدين الإسلامي كان ولا يزال مشتركًا بين المجموعتين، وهذا ما جرى وبالبشاعة نفسها في البلقان، وفي الكثير من الدول الآسيوية ذات «الهويات» والانتماءات والولاءات المختلفة والمتخاصمة، ومن بينها أفغانستان وحتى باكستان، ومن بينها إيران بالطبع، هذه الدولة التي تبدو واحدة وموحدة، وهي في حقيقة الأمر بانتظار انفجارات مرعبة كثيرة.

يجب الاعتراف وقد أصبح حال العرب كلهم هي هذه الحال التي: «لا تسرُّ الصديق ولا تغيظ العدا»، إن صراع الهويات واختلاف الولاءات بات يهدد دولنا ومجتمعاتنا العربية كلها، والأخطر أن هناك حواضن خارجية لكل هذه الولاءات وكل هذه الهويات، فهناك دول طامعة تستغل هذه التعددية، التي ربما أننا تحت وطأة ما جرى في السنوات الأخيرة ولا يزال يجري لم نعد قادرين على تحمُّل أن تلعب بأوضاعنا الداخلية تحت مسميات كثيرة على غرار ما تقوم به إيران في اليمن وفي العراق وفي سوريا وفي لبنان وفي البحرين.

يجب أن نتحدث عن هذه المسألة الخطيرة جدًا بكل وضوح وصراحة، وهذا يجعلنا نشير إلى وجود أزمة تناقض ولاءات وصراع هويات، إما نائمة أو مستيقظة في معظم دولنا العربية وإن ليس كلها فهناك مشكلة في العراق لا يمكن إنكارها وهي لا تقتصر على تصادم الهوية العربية مع الهوية الكردية في الكثير من الأحيان، وهناك مشكلة المسلمين والأقباط في مصر، وهناك المشكلة «الأمازيغية» في بعض دول شمال أفريقيا، وهناك مشكلة خاصة في اليمن ليست بين الحوثيين والشوافع والأشعريين فقط، وإنما بين الجنوب الذي أصبح يسعى إلى العودة لـ«تشطير» ما قبل وحدة عام 1994، والذي بات يعتبر نفسه «جنوبًا عربيًا» وليس «جنوبًا يمنيًا»، وبين الشمال الذي باتت حاله بعد هذه الوحدة كحال ذلك الغراب الذي أراد تقليد مشية الحمامة، فلم يستطع وفي الوقت نفسه قد نسي مشيته الأصلية.

هناك الآن «شعوبية» قد استيقظت في العراق ربما أصعب وأخطر من تلك الشعوبية التي تصدى لها الجاحظ في ذروة تألق دولة الخلافة العباسية، وهناك مشكلة المشكلات في سوريا التي أصبحت أكثر تعقيدًا من ذنب الضب، وهنا ولمن لا يعرف فإنه لا بد من الإشارة إلى أن هذا البلد العربي لم يعرف حتى مناكفة الولاءات وحتى تعارض وتصادم «الهويات» إلَّا في مطلع ستينات القرن الماضي ابتداءً بانقلاب عام 1963 الذي كان بداية ظهور آفة الطائفية البغيضة في دولة كان من المفترض ألَّا تعاني من هذه الآفة البغيضة على الإطلاق.

إن المعروف، وهذه هي الحقيقة، أن العلويين، الذين لا شك في أن بعضهم غير طائفيين، وأن الكثير منهم من أفضل من عرفتهم سوريا، على مدى تاريخها الحديث وطنية وعروبة وكفاءة ونظافة، لا يشكلون من الشعب السوري إلَّا نسبة 10 في المائة، بينما يشكل المسيحيون نحو 12 في المائة، والدروز نحو 3 في المائة فقط، والإسماعيليون نحو 2 في المائة فقط، وإن السنة العرب يشكلون نحو 70 في المائة.. ولكن: تسلُّط الذين مثلوا الطائفة العلوية في كل مواقع المسؤولية على الآخرين وبخاصة على أهل السنة هو الذي أدى إلى صدام «الولاءات» وإلى صراع «الهويات» وبخاصة بعد انحياز حافظ الأسد إلى الإيرانيين خلال حرب الثمانية أعوام العراقية – الإيرانية، وبعد فتح الرئيس الحالي بشار الأسد أبواب سوريا على مصراعيها لإيران وللنفوذ الإيراني وهذا هو ما أدى إلى ما نراه الآن.

إن هذا هو واقع الحال في سوريا، حيث أدى صدام الولاءات وصراع الهويات إلى انتفاض الأغلبية، التي شبعت ظلمًا وجورًا وإقصاء وإهانات منذ سيطرة حافظ الأسد على السلطة في انقلاب ما أطلق عليه «الحركة التصحيحية»، لا بل منذ انقلاب عام 1963 الذي أطلق عليه اسم ثورة مارس (آذار) وأدى بالمقابل بالأقلية الحاكمة، التي تمكنت من اختطاف الطائفة العلوية كما اختطفت الحكم إلى الاستعانة بإيران وإلى استيراد الفيالق المذهبية والاستعانة بحزب الله الإيراني، وهذا قد أدى كما هو معروف إلى احتلال إيراني واضح ومباشر للجمهورية العربية السورية وعلى غرار احتلال الإيرانيين للعراق وحيث برزت هناك أيضًا ظاهرة «الهويات القاتلة» بأبشع صورها وذلك إلى حد أن القرار في هذا البلد الذي من المفترض أنه عربي بات في يد الولي الفقيه علي خامنئي، وليس في يد لا رئيس الجمهورية ولا رئيس الوزراء ولا رئيس البرلمان، وهذا أدى إلى غياب الدولة العراقية وفتح أبواب حروب طائفية ومذهبية قد تستمر عشرات الأعوام وربما إلى نهاية هذا القرن وأكثر.

عندما تنعدم المساواة وتغيب الديمقراطية ويتجذر الاستفراد بالحكم ويتعمق شعور الأكثرية بأنها مضطهدة ومظلومة وشعور الأقلية أنها تعيش في وطن ليس وطنها ثم وعندما يتراجع الحس القومي لحساب الإقليمية الضيقة، فإن هذا سيؤدي حتمًا إلى تفاقم ظاهرة تصادم الولاءات والهويات، وهذا بالتأكيد سيؤدي إلى الحروب الأهلية الطاحنة وإلى التدخلات الخارجية وإلى المذابح الدامية كما يجري الآن في سوريا وفي العراق وفي اليمن.. وأيضًا كما يجري الآن بين حماس والسلطة الوطنية الفلسطينية، وللأسف وأيضًا كما يجري في ليبيا، وكان جرى في رواندا والكونغو وفي السودان قبل انفصال الجنوب وإقامة دولة لم تسلم هي بدورها من الصراعات القبلية التي قد تؤدي إلى انقسام كالانقسام الذي ينتظر منطقة دارفور السودانية.

العالم كله من دون استثناء دولة واحدة يعاني من هذه المشكلة العويصة، وليس فقط العالم الإسلامي والمنطقة العربية، فروسيا الآن التي تدفع حاليًا ثمن انفجار ظاهرة تصادم الهويات في أوكرانيا والقرم، وتنتظر انفجارات هائلة في كل الجمهوريات والمناطق الإسلامية التي حتى بعد انهيار الاتحاد السوفياتي لا تزال تدور في فلكها.. ثم وهناك مشكلة السود والهنود الحمر في الولايات المتحدة، وهناك أكثر من مشكلة في كندا، أخطرها مشكلة الإقليم الذي يتحدث أهله اللغة الفرنسية، ثم وهناك مشكلة بل مشكلات في أستراليا، وهناك مشكلة في الصين، وهناك التصادم التاريخي المستمر بين كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية، وهناك الصراع على جبل طارق وسكانه بين بريطانيا وإسبانيا.

إنَّ هذا هو واقع الحال وهو واقع يجعلنا نقول، إن هذا العالم عبارة عن كرة كبيرة تنام فوق ألغام هائلة كبيرة وكثيرة متفجرة، وهنا فإن أكبر مشكلاتنا في هذه المنطقة التي تسمى «الوطن العربي» هي أننا كنا ولا نزال نعاني من ظاهرة «الهويات القاتلة»، وأن التدخلات الخارجية، وأبشعها وأخطرها التدخل الإيراني الذي تجاوز كل الحدود، ولم تعد هناك أي إمكانية للمزيد من احتمال، وتستغل هذه الظاهرة لتحول منطقتنا إلى ساحة دائمة للحروب الأهلية ولتحول مدن هذه المنطقة بالنتيجة إلى دويلات مذهبية وطائفية متناحرة تضطر كل واحدة منها إلى الاحتماء بالدولة الإسرائيلية التي أعلن بنيامين نتنياهو أنه سيحولها قريبًا إلى دولة يهودية.. إلى دولة دينية.