كأنه أمر دُبّر في ليل!
عادة، يشار بهذا التوصيف إلى الأمر الذي يأخذ طابع المكيدة، أو العمل المسروق بعيداً عن الاضواء، أو المؤامرات التي تحاك ولا يعرف بها المنتفعون أو المتضررون إلا بعد حصولها.
هذا ما حصل في مرسوم التجنيس الاخير، الذي أُعدّ في الخفاء طيلة شهور، وتقرر تأجيل إصداره الى ما بعد الانتخابات النيابية، وتم توقيعه قبل ساعات فقط من انتقال حكومة الرئيس سعد الحريري الى مرحلة تصريف الاعمال، ليتبين بعد أيام أن العملية منجزة قبل أسابيع طويلة، وأن المرسوم جرى إعداده على مهل، بين مجموعة من العاملين والمستشارين في القصر الجمهوري والسراي الحكومي الكبير ووزارة الداخلية. هذه الجهات الثلاث توقّع على المرسوم الذي لا يحتاج نفاذه الى نشره في الجريدة الرسمية.
في السابق، وقبل اتفاق الطائف، كانت عمليات التجنيس تتم بطريقة تخصّ رئيس الجمهورية وحده، وكان قصر بعبدا يصدر المراسيم في أوقات مختلفة، وليس في نهاية الولاية الرئاسية فقط. وكان الجميع يعلم أن الجنسيات تمنح لأصدقاء الرئيس أو أصدقاء كبار المسؤولين في البلاد، وقد تم اختيارها لأسباب مختلفة، لا تتصل فقط بكون طالب الجنسية يخدم لبنان بصورة غير قابلة للخدش.
بعد اتفاق الطائف، صدر المرسوم الشهير عام 1994، وتضمن لوائح بآلاف الاسماء، وكانت غالبيتهم من المستحقين، والفقراء الذين لم يكن ممكناً لهم الحصول على جنسية في ظل النظام السابق. ولا يخفى على أحد أن السوريين خلال وجود جيشهم في لبنان، رشحوا مئات الملفات، وجرى الأخذ بتوصيتهم. كذلك ظهرت لاحقاً اعتراضات قامت في أساسها على غياب التوازن الطائفي. حيث تبين أن الغالبية الساحقة هي من المسلمين، ومن السنّة على وجه الخصوص.
في عهد الرئيس ميشال سليمان تأخر المرسوم الى الاسابيع الاخيرة من ولايته، ولا يزال كثيرون يصرّون على أن اللائحة شملت الكثيرين من المتمولين. ولم تقم القيامة يومها، ما عدا الرئيس ميشال عون وفريقه السياسي الذي انتقد منح الجنسية لغير المستحقين، بينما حرص التيار الوطني الحر، طوال الفترة السابقة على توليه السلطة، على انتقاد فكرة منح الجنسية لمن لا صلة له بلبنان، مع تركيز على الفلسطينيين والسوريين.
بالأمس، عندما شاع خبر توقيع الرئيس عون للمرسوم، جرى التداول بلوائح لا تغطي كامل الاسماء، كما جرى إدراج أسماء لم ترد في المرسوم أصلاً. لكن اتضح أن هناك قوى سياسية أعدّت نفسها لحملة تستهدف الرئيس عون على وجه الخصوص. وتقود «القوات اللبنانية» هذه الحملة مع عدد من الشخصيات المسيحية المحسوبة عليها أو على حزب الكتائب. وهي تعكس خلفية عنصرية بغيضة، تستهدف السوريين والفلسطينيين على وجه الخصوص، والمسلمين بوجه عام، وتم تكليف قناة «المر تي في» بتولي المهمة التي تناسب طبيعتها العنصرية، أو تلك التي لا تتناسب وشروطها في من يجب أن يعيش في لبنان.
تقود «القوات اللبنانية» الحملة مع عدد من الشخصيات المحسوبة عليها أو على حزب الكتائب
عملياً، جاءت هذه الحملة لتشكل عنصر ضغط على الرئيس عون بشكل خاص. لكن الانتقاد الفعلي لا يتصل بهذا الجانب ولا يمكن اعتبار كل نقد مشمولاً بنفس أهداف العنصريين. لأن المرسوم تجاهل، كما غيره، حق الألوف من مكتومي القيد أو أصحاب الجنسية قيد الدرس، وكل هؤلاء يعيشون في لبنان منذ عشرات السنين، ولهم حق في الحصول على هذه الجنسية. لكنهم فقراء، ويعيش غالبهم في الارياف البعيدة، ولا يمكنهم دفع الاموال مقابل الحصول على الجنسية، كما أن القيادات السياسية لا تهتم بهم، وهي قيادات لا تهتم باللبنانيين أصلاً.
كذلك، فإن المرسوم يصدر عن الرئيس عون، وهو المفترض أن يكون مانعاً لوصول فاسدين الى بلد يكفيه ما فيه من فساد، كما يفترض بالرئيس عون أن يفرض احترام الآليات والمعايير العلمية والمنطقية، والقائمة على أساس العدالة والمساواة. وهو أمر لم يحصل؛ فلا المرسوم شمل المستحقين فعلياً، بل شمل أسماءً بعضها قليلاً ما يزور لبنان، كما شمل مجموعة كبيرة من رجال الاعمال والمتمولين الذين لديهم ودائع كبيرة في مصارف لبنان، كذلك فإن الخطوة تمّت سراً وبعيداً عن الشفافية التي ينادي بها الرئيس عون. ثم إن مرحلة التدقيق لم تحصل وفق المتعارف عليه، حيث يجري تكليف المديرية العامة للامن العام بإدارة الملف بكامل تفاصيله، قبل وضعه على طاولة الرئيس لدرسه مرة أخيرة وتوقيعه.
اليوم، هناك فرصة لتصحيح الخلل، وأولى الخطوات تكون في نشر الملف، وترك الناس تعرض ما تعرفه عن الاسماء وتقدمه الى الأمن العام كما طلب رئيس الجمهورية، كذلك فإن حملة التشهير يمكن مقاومتها، بتحذير كل من يسيء الى الاسماء الواردة من ملاحقة قضائية تتولاها الدولة الى جانب المتضررين. ولكن الأهم هو العودة الى فتح الباب أمام المستحقين، واستقبال ملفاتهم، ودرسها بكل الوقت الذي تحتاج إليه، ومن ثم إصدار المرسوم بالطريقة المناسبة، والواضحة غير القابلة للنقد. لا أن يكون كمرسوم مكتوم القيد!