Site icon IMLebanon

جرائم القدح والذم في القانون اللبناني

المحامي أنطوني نعيم

مع تطوُّر الإعلام ووسائل التواصل الإجتماعي، عملت معظم الدول على حماية الأفراد والمؤسسات من التعدّي غيْر المبرر على سمعتهم، فاعتمدت أنظمة وقوانين لمكافحة المَسّ بشرف المواطن. جرت العادة أن نسمع بالقدح والذم دون التميّيز بينهما معتبرين أنهما يعكسان الجرم نفسه ألا وهو تشويه سمعة الإنسان. ولكن الحقيقة تدحض تلك النظرية، فهناك فرقٌ بين الجرميْن اللذيْن يهدّدان شرف المتضرر وكرامته وقد اعتبر المشترع أن للمرء قيمة إجتماعية لا تقلّ أهمية عن سلامته الجسدية. لذلك كان من الواجب مواجهة تلك التعديّات المعنوية، واعتبارها جرائم يعاقب عليها النظام بالحبس والغرامة. وقد عالج قانون العقوبات تلك الجنح من خلال قسميْن، الأول يتعلّق بالجرائم الواقعة على الحرية والشرف في المواد ٥٨٢ الى ٥٨٦ والثاني يختص بالجرائم الواقعة على السلطة العامة في المواد ٣٨٥ الى ٣٨٩. أما إذا أردنا البحث عن مفاهيم تلك الجرائم، يتبيّن لنا أن القدح هو كل لفظة إزدراء أو سباب أو رسم يترجِم تحقير بالآخر فيأتي ذلك التعبير ليَمُسّ بشرفه واعتباره ويقلّل من قيمته أمام المجتمع. أما الذم فيظهر حين ينسب أحد الأشخاص أمراً لا صحة له الى شخصٍ آخر، و لو في معرض الشك أو الاستفهام، فينال من سمعته. وقد تطرّق الفقهاء الى أركان تلك الجرائم، لتحديد مدى اكتمالها ومتى تستوجب العقوبة.

في الأصل تتكوَن كل جريمة من ركنيْن، مادي ومعنوي، يرافقهما العنصر القانوني المستند على نص يجرّم الفعل أو الامتناع عن القيام بعملٍ إلزامي. يتمثّل الركن المادي لجريمة القدح في إطلاق ألفاظ نابية أو أي تعبير آخر بقصد تحقير المعتدى عليه. كما لو أطلق أحدهم صفة «فاسد» أو «مرتشٍ» على شخص دون أي دليل على ذلك أو إذا سُبّ أحدهم في العلن أو قيل عنه مثلاً «غبي» أو «كلب». أما الركن المعنوي فيتطلب القصد الجرمي الذي يقوم على عنصريْ العلم والإرادة، أي أن يُدرِك الفاعل معنى تلك العبارات وأن تتّجه إرادته إلى إطلاقها ضد المجني عليه. بالمقابل، يتمثل الركن المادي لجريمة الذم في سلوك يصدر عن الجاني عبر نسبة أمر الى شخص من شأنه أن ينال من شرفه أو كرامته فيتسبب باحتقاره بين مجتمعه وبيئته. إذاً يجب توافر عدّة عناصر لإثبات تلك الجنحة وهي وجود واقعة محددة جرى إسنادها الى شخص المجني عليه و أن يكون الهدف من هذا الإسناد المساس بشرف وسمعة ذلك الإنسان وإذا كان الإفصاح قد جرى علناً، يعاقب بالسجن أو بالغرامة. على سبيل المثال، يمكن إعتبار تلك الوقائع ذمّاً بالآخر: القول عن شخص ولو في معرض الشك، أنه يقيم حفلات للعب القمار والدعارة وتعاطي المخدرات، أو أنه سارقٌ محترف، أو أنه تاجرٌ يغش في الكيْل… في السياق نفسه، يشترط الركن المعنوي أن تتّجه مشيئة الفاعل الى ارتكاب الجريمة بإرادة حرّة غير مشوبة بإكراه أو تهديد، فينتفي القصد الجرمي إذا أثبت الفاعل أنه كان مكرهاً على توجيه عبارات الذم وقد صدرت منه تحت تأثير التهديد. من جهةٍ أخرى، يجب أن يكون الهدف من تلك الواقعة النيْل من كرامة المتضرّر، فلا يرتكِب الذم من هو بعيد عن تلك النيّة ويُظهر وقائع ثابتة وصحيحة دون أن يكون هدفه المسّ بشرف الآخر، مثل من ينسب الى طالب أنه رسب في الامتحان أو الى تاجر أنه خسر خسارة كبيرة أو الى مجنّد أنه هارب من الخدمة…

 

أما إذا أردنا التدقيق بمفهوم علانية هذه الجنح، يجب العودة الى وسائل النشر المحددة في القانون وهي على سبيل المثال لا الحصر، التعابير والأعمال التي تحصل في محل عام أو في مكان مباح للجمهور ومعرض للأنظار، كما تعتبر الكتابة والرسوم في نفس المكانة إذا عرضت في مكان علني أو بيعت أو وزّعت على عدة أشخاص. وعند التدقيق بالمادة ٢٠٩ عقوبات التي تُحدّد وسائل النشر، نلاحظ أنها لم تذكر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي ولكن من وجهة نظر عمليّة، وتماشياً مع مبدأ مواكبة التطوّر، لا يمكن تجاهل تلك الوسائل التي تعتبر بحُكم المكان العام المُباح للجمهور، وهذا ما أكد عليه الاجتهاد بالإضافة الى أحكام قانون المعاملات الإلكترونية (رقم ٨١/٢٠١٨). على صعيدٍ متّصل، وبعد البحث في اختصاص المحاكم الناظرة في جرائم القدح والذم والتحقير الحاصلة عبر شبكة الإنترنت، يُلاحظ أن الاجتهاد قد أبعدَ مواقع التواصل الاجتماعي كمنصة «أكس» مثلاً، عن المفهوم المنصوص عليه في قانون المطبوعات واعتبرها مجرد وسيلة تخاطب إلكتروني خاصة بصاحب الحساب، لا تحتوي على الهيكلية العائدة للصحف كإسم المؤلف والناشر ومدير التحرير، فيكون الاختصاص هنا للمحاكم الجزائية. هذا وقد اعتُبرت مواقع الصحف الإلكترونية ضمن الأنواع التي تخضع لمحكمة المطبوعات مثل المجلاّت والصحف الورقية.

 

تجدر الإشارة إلى أن دعوى الحق العام في جرائم القدح والذم تتوقف على اتخاذ المعتدى عليه صفة الادّعاء الشخصي، فلا تتحرك النيابة العامة إلّا بناءً على شكوى المتضرِر. أما إذا تعرّضت إحدى المطبوعات أو وسائل الإعلام لشخص رئيس الدولة بما يعتبر مسّاً بكرامته أو نشرت ما يتضمّن ذمّاً أو قدحاً أو تحقيراً بحقه أو بحق رئيس دولة أجنبية، فتتحرّك دعوى الحق العام بدون شكوى المتضرر. في شأنٍ متّصل، يجب التوضيح أن جريمة الذم لا تقتصر على الأشخاص الطبيعيّين، بل يمكن أن تقع على الأشخاص المعنويين؛ كالدولة أو الجمعيـة أو الشركة كما وأن الحماية القانونية لشرف الإنسان وكرامته تمتد حتى ما بعد وفاته، فالمادة ٥٨٦ من قانون العقوبات نصت على أنه إذا وُجّه الذم أو القدح الى ميت، جاز لأقربائه حتى الدرجة الرابعة دون سواهم التقدم بشكوى وتفعيل الملاحقة، هذا مع الاحتفاظ بحق كل قريب أو وريث تضرّر شخصياً من الجريمة. من جهةٍ أخرى، يسقط الحق العام تبعاً لإسقاط الحق الشخصي في تلك الجرائم الواقعة على الأفراد غير موظفي الإدارات العامة والجيش وقضاة الحكم بسبب وظائفهم أو صفاتهم، وعلى النواب والوزراء، وعلى رئيس الدولة، شرط أن يحصل الإسقاط قبل صدور حكم مبرم، وأن يكون صريحاً، غير معلّق على شرط وصادراً عن جميع المدّعين الشخصيين في حال تعددهم.

 

أما بالنسبة الى العقوبة التي يتعرض لها الفاعل فهي تتنوّع بحسب صفة المجني عليه أو طريقة النشر وقد نص عليها قانون العقوبات وقانون المطبوعات (رقم ١٠٤/١٩٧٧). يعاقب على القدح بالحبس من أسبوع إلى ثلاثة أشهر أو بالغرامة، وإذا كان الفعل موجّه ضد رئيس الجمهورية فيعاقب عليه بالحبس من شهر إلى سنة وإذا وقعت تلك الجنحة ضد الجيش أو القضاة أو أي موظف ممن يمارسون السلطة العامة فتكون العقوبة الحبس ستة أشهر كحدٍ أقصى. والجدير بالذكر أنه يحق للقاضي أن يعفي الفريقين أو أحدهما إذا كان المعتدى عليه قد تسبّب بالقدح بعمل غير محق أو كان القدح متبادلاً. وإذا كان القدح مقترفاً بواسطة المطبوعات فيعاقب عليه بالحبس من شهر الى ستة أشهر وبالغرامة أو بإحدى هاتين العقوبتين. أما في ما يختص بعقوبة الذم، فتُضاعف المدد السابقة إذا أُرتكِب الفعل بحق رئيس الدولة أو الهيئات المنظمة أو الإدارات العامة وموظفيها. هذا بالإضافة الى التعويض عن العطل والضرر الذي يمكن أن يُحكَم به لمصلحة المجني عليه أو ورثته. يقتضي التوضيح، أن المشترع اكتفى بالغرامة دون الحبس في حال لم يقع الذم أو القدح علانيّةً.

في شأنٍ متّصل، لا بد من الإضاءة على جرم التحقير المشابه الى حدٍّ ما لمضمون القدح والذم والذي نصّ عليه قانون العقوبات في المواد ٣٨٣ و٣٨٤. بشكلٍ عام، يظهر التحقير عبر كلام أو عمل أو تهديد موجّه الى موظف أثناء قيامه بالوظيفة بشكلِ غير علني ويُقصد بالموظف كل شخص عُيّنَ أو انتخب لأداء مهمّة أو خدمة عامة ببدل أو بغير بدل. كما أن هذا الجرم ممكن أن يطال العلم اللبناني أو الشعار الوطني ولكن يُشترط في هذه الحال أن يقع الفعل بطريقة علنيّة.