في هذا الأسبوع أعلن المتفاوضون هزيمتين: واحدة بين اليونان والاتحاد الأوروبي، والأخرى بين إيران والولايات المتحدة الأميركية. الأولى بخصوص دولة أخرجت من النظام العالمي قبل إعادتها إليه، والثانية بخصوص دولة عضو في الاتحاد الأوروبي؛ الأولى تتعلق بالحقوق المالية، الثانية تتعلق بالحقوق «النووية». في كل من الحالتين كان الأساس هو الجانب السياسي، وفي كل من الحالتين كانت سيادة البلد الأضعف على المحك، وفي كل من الحالتين كان طبيعياً أن يخسر البلد الأضعف قدراً كبيراً من السيادة على أرضه، وأن يتخلى عن أفكار مسبقة اعتبرت الجانب الأقوى مجرد «إيديولوجيا».
لا رحمة للشعوب المستضعفة ولا لدولها؛ عندما يتعلق الأمر بالسلطة. أرباب النظام العالمي لا تعني لهم شيئاً شعوبهم في بلادهم عندما يتعلق الأمر بالسلطة. السياسة عندهم وفي العالم هي أن تقرر وأن تأمر وأن ينفذ الآخرون أوامرك. لا يقبل أرباب النظام «تسوية» حتى ولو جاءت من خلال مفاوضات، فهذه تعقد من أجل أن يقبل الطرف الضعيف الشروط التي تفرض عليه. قبلت اليونان الشروط لأنها حوصرت مالياً، وكادت أن تسقط في الهاوية. قبلت إيران الشروط لأنها حوصرت بالعقوبات التي ألحقت باقتصادها ضرراً كبيراً. من جملة العقوبات كانت مصادرة أموالها في الخارج. حرمت من حق الملكية الذي يعتبر مقدساً في النظام الرأسمالي. حتى هذا الحق يضحى به عندما تعتقد السلطة العالمية أن سيطرتها تتعرض للأذى.
هُزمت ألمانيا واليابان في الحرب العالمية الثانية. أقرتا بالهزيمة وواجهتاها بالنمو الاقتصادي؛ بالعمل والشغل. حتى الصين التي زارها نيكسون، الرئيس الأميركي، في مطلع السبعينيات، لم تنتبه إلا بعد سنوات أن المواجهة الاقتصادية، بالعمل والشغل، هي جوهر المواجهة السياسية. كذلك فعلت دول آسيا الشرقية «النمور» على الرغم مما واجهته من مؤامرات النظام العالمي. لنتذكر أن انهيار 1997 المالي شرق آسيا كان إلى حد كبير مفتعلاً.
أما مصر الساداتية التي انقلبت على السياسة الناصرية فإنها لم تواجه بالتنمية الاقتصادية. لذلك بقيت تنحدر من فقر إلى فقر ومن ضعف إلى ضعف وصولاً إلى اتفاق كامب ديفيد المذل. مع التمنيات أن تكون «الجماهير» الفرحة بالاتفاق في طهران قادرة على أن تتلافى المصير نفسه؛ الجماهير التي اصطفت في السبعينيات لاستقبال نيكسون رافعة راية استقبال «الاستثمارات» الوافدة، عفواً، التي كان يتوقع أن تفد إلى مصر.
ليس المطلوب رفض التفاوض ولا رفض التسويات. التسوية أساس السياسة، وحتى الديبلوماسية. لكن المطلوب أن الفريق الذي يدخل في تفاوض من أجل تسوية قد فعل ما عليه داخل بلاده ليصبح «أقوى». والقوة في هذا العصر لا تكون إلا بالعمل والإنتاج، وربما كان ذلك صحيحاً في كل العصور. تكلفة بناء المنشآت للدورة الأولمبية في اليونان من أجل «البرستيج»، لم تكن أقل كلفة اقتصادية وسياسية من المشروع النووي الإيراني.
ما يتمناه عاقل ينتمي إلى صف المستضعفين والمستقلين والمحرومين هو أن يكون منطق «البرستيج» لدى هذه الشعوب ودولها قد انهزم. لكن هذه مسألة أخرى.
ليست المشكلة في التفاوض والتسوية؛ هذا مطلوب في كل حين. المشكلة هي في خطاب التسوية والتفاوض. خطاب الهزيمة اليوناني أكثر واقعية من خطاب التسوية الإيراني.