IMLebanon

حزب الهزائم يثأر من «حزب الله»

هي مناسبة للتفكر، لا للتذكر. تسعة أعوام بعد الانتصار، فلمَ الأمة كلها تكابد الانهيار؟ لم يكن ذلك متوقعاً، في أسوأ الكوابيس. القتل نظام المرحلة، والحياة صدفة… المقاومة تتقدم في الإنجاز، والأمة بأنظمتها ومجتمعاتها، تتردى في الخسران. كان متوقعاً أن تضع المقاومة خاتمة لـ «عصر الهزائم»، فهي وُلدت من ركام «النكبة» وحطام «النكسة» ودمار «الاجتياح» وعار التخلي، وأنجبت أحلاماً مضادة: هزمت من لا يهزم. حققت ما فات جيوش الأنظمة. هزمت إسرائيل، وفتحت الأبواب أمام عصر جديد، فانتفض «حزب الهزائم» وعمَّم حروب الطوائف والمذاهب والاثنيات… هل كان ذلك حتمياً ومتوقعاً، أم مجرد مفاجأة عابرة؟

تستوطن المقاومة الصفوف الأمامية، وخلفها مجتمعات مفخخة وأنظمة لحراسة الركام وإشعال الحرائق، وها هي مشتعلة، مؤسسة لمستقبل من رماد الطوائف والمذاهب والأقوام. أكيد هذا. فليس من مصلحة من تبنى الهزيمة سياسة، أن تكون المقاومة على قيد السلاح وفي تصوُّر الإنجاز. هؤلاء، لا يحتملون مجداً يُذلهم وانتصاراً يعريهم وشعباً يسائلهم. هؤلاء، هم كذلك منذ التأسيس لدولهم وأنظمتها، ومن راهن عليهم أُصيب بالخذلان.

حرب تموز، بعد تسعة أعوام، من يستفيد من أسئلتها؟ لنبدأ من المفاجأة: أي مُنكر أقدمت عليه المقاومة حتى يُحكم على انتصارها بالتشهير والطعن والتبخيس والتخويف؟ لماذا ارتكبت المقاومة هذا الانتصار؟ كيف خرقت الإجماع الرسمي العربي على الاستنقاع في الهزيمة؟

هي أسئلة بإجابات سهلة: طبيعة الأنظمة مضادة لطبيعة المقاومة. لكن، لماذا انفضَّ الإجماع الشعبي من حولها، بعد التحرير في «أيار» و «الصمود» في تموز؟ من أطلق تهمة التشيّع، فأيقظ الفتنة النائمة؟ كيف تغيّرت وتبدّلت الأدوار، فمن دول تحمي وتدعم المقاومة، إلى مقاومة تحمي وتدعم وتحارب ما تبقى من دول داعمة؟

أكان ما حصل نتيجة تآمر؟ الظن المرجح، أن ما حصل هو من طبيعة البيئة السياسية العربية، ومن تركيبة المجتمعات التي أفرغتها الأنظمة، كل الأنظمة، من الانتماء والمساءلة والمشاركة… سلطات صادرت إرادة وحرية الناس والأحلام، بالحرية والعدالة والوطن و… فلسطين أولاً… الأمة، في هذه الحال، لم تهزمها «إسرائيل»، وهذه لم تهزم الشعوب العربية بسبب الانتماء الأصيل لفلسطين. ظلت فلسطين فوق الأنظمة وبحماية الشعوب، إلى أن أُعلن النفير المذهبي، فالتحقت كالقطعان بمذاهبها.

منذ نصف قرن والعدو خلفنا ومعنا وفينا. لم يكن الخوف على المقاومة من الخطوط الأمامية. الخطر من «بروتوس» العربي. و«بروتوس» هو بصيغة الجمع. العداء بين الدولة والمقاومة مفهوم. الدولة دائماً على حق. الحصرية لها والشرعية معها والقرار منها. لكنها تفقد جدارتها في حقوقها، عندما لا تحمي شعبها وتتحوّل إلى دولة فاشلة. (ديغول يقاوم دولة بيتان) ودولنا، في معظمها، تتبارى في الفشل، وتعوِّض عن ذلك بتعميم ثقافة «الحكمة» و «الوقار» و «الواقعية»، معتبرة المقاومة تهوراً ومغامرة وذات ولاءات ملتوية ومرتهنة للخارج ومغتصبة لسيادة الدولة. باختصار المقاومة لا تحظى ولن، بمباركة الدولة. من محاسن لبنان وفضائل ضعفه وفوضى الحرية فيه، أنه أنتج معادلة «الجيش والشعب والمقاومة» لتوفير غطاء سياسي شرعي ودولتي للمقاومة، من دون التزام «الثلاثي» في أعباء القتال والتحرير. هذه الثلاثية تهتز ومعرّضة للتقويض.

المقاومة في لبنان، بعد تسع سنوات على عدوان تموز، أمام امتحان وجودي. لا خوف من إسرائيل. المقاومة تشعر أن ظهرها مكشوف وملغوم. خاصرتها كذلك. المدى الزمني مفتوح على مشقة سد المنافذ، درءاً للخطر الأعظم. لم تعد إسرائيل، وهي العدو الأول، في الأولوية. هي خطر غير داهم مع أنها خطر دائم. خطرها مريح نسبياً. معركة المقاومة مع البيئة المتفجرة حولها، تشبه الملاحم والأساطير، وهي بعد ثلاثة أعوام، ما تزال في بداياتها.

ما حصل ذلك في غفلة أو بصدفة. حدث بتدبير. لم يكن مقبولاً، من أنظمة السلامة والوداعة والاستكانة والاعتدال، أن تتحوّل جماهير الأمة من المحيط إلى الخليج، إلى حاضنة للمقاومة. ساءها أن تكون العدوى الجميلة، فالانتفاضة الثانية، من مناخها. يومها، تصدَّرت صورة «سيد المقاومة» بيوتات الناس في القارة العربية. لم ينظروا إلى مذهبه، نظروا إلى عمامته، رأوها علماً فلسطينياً، وإلى كوفيته، رأوها أمانة في عنقه. كيف انقلب هؤلاء الناس إلى أعداء؟

بعد «غزوة نيويورك»، واحتلال العراق وتدميره، اندلعت «المظلومية السنية». ارتسم «الهلال الشيعي» منذراً «القوس السني». هكذا كان المشهد: حملة على التشيع، قادتها أنظمة الخليج والعمائم. استجاب لها الكثيرون من المحيط إلى الخليج. لم تنجُ مرجعية دينية من التخويف. «تهمة التشيع» تمحو عن صورة المقاومة وجه فلسطين. صارت المقاومة تشيعاً… ومن هنا، دخلت الأمة في «الفتنة العظمى». وها هي المقاومة في مواجهة القوس السني…

هذا زمن قادم إلينا بكل بشاعاته وهمجيته، إنه زمن الهزائم. كان ممكناً تفادي بعضه، لو أن المقاومة أنشأت حلف المقاومين في الأمة. جبهة بمواصفات ديموقراطية، مدنية، تحررية، تنأى عن المذهبية، وعن أنظمتها… لم يحصل ذلك. والسؤال: هل فات الأوان؟

ليت لا…