IMLebanon

لاستراتيجية لبنانية لا دفاعية

 

أظهرت الوقائع أنّ السعي إلى الاستراتيجية الدفاعية التي انطلق البحث بها مع خروج الجيش السوري من لبنان بهدف استعادة الدولة لقرار الحرب، كان هدراً للوقت، لأنّ «حزب الله» لا يريد التخلّي عن سلاحه.

لا تخضع السياسات الداخلية والخارجية والدفاعية للدول إلى رغبة فئة أو فريق، ولا تُفرَض بالأمر الواقع، وشرطها مثلّث الأضلع: التوافق بين المكوّنات على المساحات المشتركة التي تجمعهم في بلد واحد، المصلحة العليا للوطن وشعبه، والدولة وحدها المولجة تنفيذ السياسات المتعلِّقة بالبلد.

 

فلا تستطيع فئة من اللبنانيِّين أن تفرض شروطها أو أجندتها أو برنامج عملها على الفئات اللبنانية الأخرى، وما يجمع هذه الفئات هو الدولة، وأي استراتيجية يتمّ وضعها يجب أن تكون بالتوافق وتحت سقف الدولة وبما يخدم المصلحة اللبنانية العليا لهذه الدولة وشعبها.

 

ومعلوم أنّ ما يسمّى المقاومة فُرضت فرضاً على اللبنانيِّين مع دخول لبنان الزمن السوري مطلع تسعينات القرن الماضي، في سياق سياسة تقاسم النفوذ بين دمشق وطهران، ولولا الانقلاب على اتفاق الطائف لكان سلّم «حزب الله» سلاحه في العام 1991 أسوة بالميليشيات الأخرى.

 

ومع الانقلاب على الطائف فرض على اللبنانيِّين فرضاً سياساتهم الداخلية والخارجية والدفاعية، ولم تخضع هذه السياسات لا إلى البحث ولا التوافق، ولم تأخذ في الاعتبار مصلحة لبنان، ولم تكن الدولة هي المولجة بتنفيذ هذه السياسات.

 

فلا يمكن لوطن تركيبته المجتمعية تعدّدية وتضمّ أربع جماعات أساسية، مسيحية وسنّية وشيعية ودرزية، أن تكون مقاومته شيعية بخلفية مذهبية إيرانية واسمها المقاومة الإسلامية وفي وطن منقسم أساساً طائفياً ومذهبياً، ولا يمكن لدولة تعدّدية مسيحية وإسلامية إلّا أن تكون حيادية، ولا يمكن لدولة تعددية إلّا أن تكون لامركزية.

 

وكل ما بُنيَ منذ العام 1991 بُنيَ على أساس أنّ مركز القرار اللبناني بأبعاده الخارجية والدفاعية والداخلية هو في دمشق وليس في بيروت ولا يستند إلى الدستور اللبناني، وقد حاول «حزب الله» بعد خروج الجيش السوري أن يرث عن النظام السوري الأبعاد الثلاثة، فتمكّن بقوة الأمر الواقع من الإمساك بالبُعدَين الدفاعي والخارجي، وعطّل البعد الداخلي في كل مرّة اعتمد هذا البُعد سياسات لا تتلاءم مع سياسات الحزب.

 

فالحاجة إلى استراتيجية دفاعية تُبحث داخل المؤسسات ولا يكون مركز قرارها لا في دمشق ولا في طهران، وتكون الدولة حصراً هي الجهة المولجة تنفيذها، ولا يجوز بأي شكل من الأشكال أن يحتفظ أي فريق بالسلاح تحت أي ذريعة، فلا سلاح خارج إطار الدولة التي تحتكر وحدها القوة.

 

والخلفية الأساسية وراء الكلام عن الاستراتيجية الدفاعية تكمن في إلهاء اللبنانيّين في بحث مؤجّل بتّه إلى الأبد ويبقى فيه سلاح «حزب الله» متحكّماً بالسياسات الدفاعية والخارجية والداخلية، وهذا التحكُّم قاد لبنان إلى الحروب والفوضى والفشل، ولكن لأنّ لكل زمن نهاية، فإنّ الزمن الإيراني الذي بدأ مع خروج الجيش السوري شارف على الانتهاء بقرار أميركي، وأي إدارة أميركية ستقول كلاماً واضحاً لطهران بأنّ لبنان لن يبقى منصة لسلاحها ودورها العسكري، وهذا يعني أنّ لبنان على قاب قوسَين أو أدنى من الدخول في مرحلة جديدة.

 

ولم يَعُد من الجائز الكلام الممجوج عن استراتيجية دفاعية الهدف منها تمديد الأمر الواقع المتمثِّل بسلاح «حزب الله»، وذلك على نسق الكلام عن مقاومة في محاولة لإعطاء مشروعية لسلاح «الحزب»، وكل هذا النقاش انتهى كونه يشكّل جزءاً لا يتجزّأ من المرحلة الممتدة من التفويض السوري إدارة لبنان، إلى الأمر الواقع الإيراني بعد هذا التفويض، وكل هذه المرحلة دخلت في فصلها الأخير.

 

وهناك مَن يطرح الاستراتيجية الدفاعية كجائزة ترضية للبيئة الشيعية، فيما لا تجوز جوائز الترضية على حساب البلد ودستوره وشعبه، والبيئة الشيعية تأخذ حقها كاملاً بتطبيق الدستور وليس بتجاوزه كما كان حاصلاً منذ 34 سنة، وبعد أن تتحقّق المساواة بين اللبنانيّين من خلال تطبيق الدستور، وبعد أن تستعيد الدولة دورها السيادي الذي حُرمت منه منذ العام 1968، فلا بُدّ من تطوير النظام من مركزية مولِّدة للحروب والانقسامات والصراعات، إلى لامركزية تنسجم مع طبيعة المجتمع اللبناني التعدّدي.

 

وبعيداً عمّن يواصل المكابرة ويصرّ على التعمية، فإنّ لبنان يقف اليوم على مشارف زمن جديد هو الزمن اللبناني الذي يستدعي التوافق على الاستراتيجية اللبنانية المطلوبة لهذا الزمن، أي الاستراتيجية التي كان يجب الشروع في تنفيذها مع إقرار اتفاق الطائف لولا الاحتلال السوري للبنان، وقوام هذه الاستراتيجية مثلّث الأضلع:

 

 

الضلع الأول، الاستراتيجية الخارجية وركيزتها الأساسية الحياد الذي ما إن سقط حتى سقط لبنان. وعلى رغم من أنّ إيران التي سيتمّ كفّ يدها الإقليمية، هي مبدئياً آخر دولة إقليمية توسعية ببُعد أيديولوجي بعيد عن لغة العصر التي تريدها الناس التي أصبحت أولويتها دخلها الفردي واستقرارها وتطوير حياتها، إلّا أنّ هذا لا ينفي ضرورة أن تكون الدولة اللبنانية دولة حيادية، لأنّ أحداً لا يستطيع أن يضبط دينامية الأحداث.

 

الضلع الثاني، الاستراتيجية الدفاعية وركيزتها الوحيدة الجيش اللبناني الذي يُمسك وحده أو بالتعاون مع القوات الدولية الحدود مع إسرائيل التي تحكمها اتفاقية الهدنة، والحدود مع سوريا التي يحكمها القرار 1680. وكان لبنان بغنى عن فصول عدم الاستقرار التي بدأت مع العمليات الفلسطينية بدءاً من العام 1965، ولو أمسكت الدولة بحدودها ومنعت هذه العمليات لكان جنّب لبنان نفسه الحروب والانهيار والفوضى والخراب، وأمّا قد حصل ما حصل، فآن الآوان لوقف مغامرات الدم والعنف والعودة إلى الدولة التي تُمسك وحدها بحدودها.

 

الضلع الثالث، الاستراتيجية الداخلية وركيزتها الأساسية لامركزية موسعة، وقضاء مستقل، وإدارة محترفة، ورئاسات وسلطات تحكم وفقاً للنصوص وأولويتها الإنسان وتحسين نمط عيشه.

 

سيخرج لبنان للمرّة الأولى منذ ستينات القرن الماضي من الزمن الإيديولوجي الذي دمّر البشر والحجر، إلى الزمن الإنساني الذي لا أولوية تعلو فيه على أولوية الانسان ورفاهيته، فلا وحدة عربية، ولا اتحاد سوفياتي، ولا شيوعية عالمية، ولا شعب واحد في دولتَين، ولا أمّة إسلامية، ولا مستعمرة إيرانية، ولا صوت يعلو فوق صوت المعركة، ولا وحدة ساحات، وبالتالي مع سقوط هذه المشاريع الكبرى كلّها التي هزّت الكيان اللبناني وأسقطته على مدى خمسة عقود، هناك فرصة حقيقية لإحياء الزمن اللبناني الجميل.لاستراتيجية لبنانية لا دفاعية