بحسب ما يرشح عن أخبار المفاوضات بين “حزب اللّه” وإسرائيل بوساطة أميركيّة، فقد وافق الأوّل على تفكيك كامل بنيته العسكريّة جنوب الليطاني، وعلى منع إعادة ترسانته إلى ما كانت عليه قبل الحرب الحاليّة، وعلى إغلاق منافذ الأسلحة إليه عبر سوريا. وإن صحّ ما سبق، فيعني ذلك أنّ الحرب الحاليّة أنهت دور “الحزب” كخطّ دفاع أوّل عن النظام الإيراني ضدّ إسرائيل. هذا ليس تفصيلاً؛ ولكنّ هذا يعني إيران وإسرائيل أكثر ما يعني المكوّنات المسيحيّة والسنيّة والدرزيّة بلبنان. أمّا ما يهمّ هذه المكوّنات فهو نهاية دور “الحزب” الشيعي كأداة هيمنة طائفيّة عليها. والحال أنّ هذا الدور هو ما يقاتل “حزب اللّه” اليوم للحفاظ عليه، بدعم تامّ من نبيه برّي، وجلّ المؤسّسة الدينيّة الشيعيّة، وجلّ نخب الطائفة، ووجوهها البارزة على الساحة الإعلاميّة، ورأيها العامّ.
ومنذ طفت أخبار صفقة الموفد الأميركي آموس هوكستين على سطح التداول المحلّي، طرح كثر سؤالاً يبدو بالشكل وجيهاً، ولكنّه بالحقيقة شديد السذاجة. هذا السؤال هو التالي: إن كانت “المقاومة” قبلت بالتخلّي عن سلاحها جنوب الليطاني فما نفع التمسّك بما بقي من سلاح شماله؟ الجواب هنا مزدوج: أوّلاً، “المقاومة” ليست كذلك، ولم تكن يوماً. أساس الحزب الشيعي وعلّة وجوده ليست إسرائيل بل الصراع الطائفي في لبنان. وثانياً، لا ضرورة للسلاح الثقيل كي يبقى شيعة لبنان، عبر “حزب اللّه”، أسياد البلاد وحكّامها. يكفي الحفاظ على السلاح المتوسّط والخفيف شمال الليطاني، ويكفي خصوصاً الحفاظ على وحدة الاغتيالات بـ “الحزب”، وبنيته الأمنيّة. هذا ما يريده “حزب اللّه”، ونبيه برّي، وما لا يأبه به بالضرورة اللاعبون الدوليّون.
للتذكير: هزمت قوى 14 آذار “حزب اللّه” مرّتين: أوّلاً بالشارع، لجهة التظاهرة الأولى التي نظّمتها عام 2005 وفاقت أعدادها بوضوح قدرة الحزب الشيعي على التعبئة والحشد. وثانياً، بأقلام الاقتراع التي أعطت الغالبيّة مرّة بعد مرّة لأخصام “الحزب” على الساحة المحليّة. لم توقف هذه المعطيات المسار اللاحق الذي أوصل “حزب اللّه” للانفراد بحكم لبنان، والذي بدأ مع اغتيال الرئيس رفيق الحريري، واستمرّ عبر سلسلة تصفيات دمويّة تبعته، وصولاً إلى اجتياح الجبل وبيروت، عام 2008. لم يكن “الحزب” بحاجة لسلاح ثقيل في كلّ هذا. وإن تمكّن من الحفاظ على الحدّ الأدنى من هيكليّته العسكريّة شمال الليطاني بعد نهاية المعارك الحاليّة، فستكون السنوات الرهيبة بتاريخنا المعاصر التي تلت العام 2005 صورة عمّا ينتظرنا بالمستقبل بظلّ حكم جماعة هي أخطر ما ابتليت بها بلادنا منذ كانت.
استناداً إلى ما سبق، تبدو خطورة مسألة ما يسمّى بـ “الاستراتيجيّة الدفاعيّة” التي يطرحها جبران باسيل ونهاد المشنوق وسواهما من موالي “الحزب” الصغار بلبنان. ذلك أنّ أيّ شيء غير تسليم آخر بندقيّة يملكها الحزب الخميني للدولة – كما فعل “الاشتراكي”، و”القوّات”، وسواهما بعد العام 1990– سيسمح للستاتيكو الحالي بإعادة إنتاج نفسه في السنوات المقبلة. وربّ قائل طبعاً إنّ الجيش اللبناني سيكون بالمرصاد، وإنّ قوّاتنا المسلّحة قادرة على تجريد الحزب الشيعي من سلاحه، بعد إضعافه. سيكون هذا المشهد جميلاً لو حدث، ولكنّني سأصدقّه فقط عندما أراه، إن رأيته.