زائر دير الأحمر سيكتشف فوراً أن البلدة التي تشكّل همزة وصل بين محافظتي البقاع والشمال، ولطالما شكّلت ظهيراً للقوات اللبنانية، لم تعد كذلك… تماماً. عادت الروح الى العائلات التي تنازع القوات على النفوذ في «الدير» ومحيطها. وأول الخروق يتبدّى في «النشاط الزائد» للنائب إميل رحمة
«الدكانة» القديمة ببابها الحديدي الصدئ، على طريق دير الأحمر الداخلي، لا تختلف عن مثيلاتها في القرى اللبنانية. أحد الرجال الثلاثة أمام «الدكانّة»، يحمل نبتة «حشيشة». مسيحيو لبنان ليسوا فقط أولئك الذين يسكنون في جبله. هم أيضاً من يسكنون في جبال لبنانية أخرى، ويتحدثون، هنا، بلهجة بعلبكبة محبّبة. «خودي شومّي ريحتها، بتردّ الروح»، يقول أحدهم.
في نقطة تقع بين سفح جبل بشرّي وأول سهل البقاع، مثّلت دير الأحمر نقطة عبور بين محافظتي البقاع والشمال. وهي بُنيت فوق أنقاض معابد وآثار قديمة بسواعد عائلاتها الأصلية، وأخرى نزحت من بشرّي والعاقورة بعدما أغرتها طبيعة الدير الزراعيّة.
ومنذ إنشاء لبنان بشكله الحالي، وتقسيم مسيحييه بين جبله ومن اصطلح على تسميتهم «مسيحيي الأطراف»، لم يعتد أهالي الدير ــــ شأنهم شأن أهالي القاع وراس بعلبك وعشرات القرى المسيحية في البقاع الشمالي ــــ أن يأتي أحد لاستطلاع أحوالهم. فـ «هيدي ضيعة ما إلها حدا، مقطوعة من شجرة. عالمها في بيروت، لأن ما فيها شي تَ يشتغل الانسان».
آثار الصليب المشطوب و«الدلتا» (شعار القوات) على بعض الجدران شاهد على حكايات قديمة عُمرها، أقلّه، من عمر «المقاومة المسيحيّة» التي حولّت دير الأحمر الى «حامي ظهر» القوات اللبنانيّة. وهي ترسّخ الاعتقاد السائد بأنّ الديريين جميعاً قواتيون. «السياسة مثل الغربال، كل ساعة بيقلبونا شي»، يقول أحد الرجال الثلاثة أمام «الدكانة» القديمة. ويضيف: «الأحزاب ألغت وجود الزعامات المحليّة. وخلال الحرب لم يكن بامكاننا الحصول على ربطة خبز اذا لم نلتزم بالحزب»، ولكن، «كلّهم كذابين وما عملولنا شي. العالم وعيت هلّق».
مسؤول القوات في البقاع الشمالي مسعود رحمة والمسؤولون القواتيون المحليون في «الدير» يجزمون بأن «جوّ المنطقة لم يتبدل، وهو قواتي بامتياز»، ولكن من الواضح أن من بين «العالم التي وعيت هلّق»، الزعامات التقليدية التي «سلّمت رقبتها»، مع بداية الحرب، لأحزاب الأمر الواقع. عاد هؤلاء لـ «تزييت» ماكيناتهم. قد لا يعني اختراقهم المشهد «الزيتي» تبدلاً جذرياً، الا أن السهولة التي بات يُنتزع بها انتقاد لسياسة القوات في الدير تُعدّ خرقاً لا يُستهان به. والواقع أن الخرق بات يتعدّى الانتقاد الكلامي إلى حدّ تمكّن النائب اميل رحمة من تكوين «حالة مسيحية» في دير الأحمر، على ما يؤكّد فريق العمل المحيط به.
تاريخياً، وسمت العائلات التقليدية ــــ وأهمها حبشي وكيروز ــــ المنطقة بطابعها السياسيّ. لكن الحرب الأهليّة سمحت للقوات اللبنانية بـ «فتح» المنطقة عبر رفع رايات «المقاومة» و«حماية الوجود المسيحي». شعارات دغدغت مشاعر أبناء «الدير»، فـ «الناس، هنا، يؤمنون بسيدة بشوات وسيدة البرج وبأن القدرة الالهية هي التي حاربت عنهم»، يقول المختار سمير حبشي. لم يبقَ، شكلياً، من مرحلة «القوات» سوى آثار شعاراتها على الجدران. أما الصور المرفوعة في شوارع البلدة، اليوم، فهي في الأغلب لقديسين، باستثناء واحدة للنائب رحمة عُلِّقت في حيّ آل حبشي، في رسالة سياسية واضحة ضد القوات.
عائلة حبشي هي أكبر عائلات دير الأحمر. يبلغ عدد أصواتها نحو 2500 يصبّون «بلوكاً» واحداً. قانون الستين أتاح لـ«الدير» انتخاب مرشد حبشي (خال والدة رحمة) أول نائب ماروني عن المنطقة. بعد أربع سنوات، خسر آل حبشي المقعد حتى عام 1972 عندما انتُخب طارق حبشي، «زعيم العائلة ذو النزعة المسيحية»، وبقي نائباً حتى 1992. تحالف الأخير مع الرئيس الراحل بشير الجميل، وتماهى، بعده، حتى عام 2010، مع رئيس القوات سمير جعجع، ما ساهم في زيادة رصيد القوات في «الدير»، وفي اتخاذ آل حبشي قرار مقاطعة الانتخابات النيابية عام 2009.
يؤكّد حبشي أنه «لم تكن هناك زعامات في الدير، ولكن قوة البلدة في تكاتف عائلاتها»، مقرّاً بأن الأمر تغيّر مع دخول الأحزاب التي «تعمل على محاربة العائلات حتى تقوى»، لكنه يلفت الى أن «لا أحزاب هنا بالمعنى العقائدي، بل مجموعات من الأفراد تدور في فلك شخص ما». ويشير النائب السابق الى أن الانتخابات البلدية عام 2010 كانت من المحطات التي رسّخت الانقسام بين العائلات والقوات، ويروي كيف تعرض لـ «خديعة»: «قبل يوم واحد من الانتخابات، اتصل بي (جعجع) يُطمئنني بأنهم سيتركون قرار اختيار الأعضاء للعائلات، ولكنهم خاضوا معركة». وعليه، كُسرت الجرّة، وفي الانتخابات النيابية المُقبلة «مرشحنا هو اميل، ومستحيل أن نُقاطع».
أما رئيس البلدية القواتي ميلاد عاقوري، فيعزو الخلاف الى أنهم «في الدير يخافون من اللعبة الديمقراطية حرصاً على العائلات». ويوضح أن «القوات حاولت أن توفق بين الجميع، لكن تعذر ذلك فخضنا الانتخابات بلائحتين».
حين انُتخب رحمة نائباً عن منطقة بعلبك ــــ الهرمل، عام 2009، لم يكن يملك منزلاً في منطقته، فقدّم له أفراد من آل العاقوري مكاناً يبيت فيه. يومها، قاطع أبناء دير الأحمر الانتخابات «لمعارضتهم التحالف مع حزب الله والتيار الوطني الحرّ»، فنال ثلاثة في المئة فقط من أصوات أهلها، بحسب ما تقول المصادر القواتية. مدير مكتبه في «الدير»، جوزف معلوف، يؤكّد أنّ «الأمور تغيّرت اليوم، وأرقامنا ارتفعت الى 35 في المئة تقريباً». يستند عضو حزب التضامن حنا رحمة الى التكريم الذي أقيم للنائب في بشري في آب الماضي ليؤكد أن التبدل في المزاج الشعبي تعدّى دير الأحمر الى خارجها. ويلفت الى أنّه «في عهد اميل أُقيم قداس في كنيسة الأنطش، مقابل قلعة بعلبك، للمرة الأولى منذ زمن طويل، كما أنه ساهم في بناء تمثال للعذراء في قلب بعلبك».
التقدم الذي سجلّه رحمة في دير الأحمر يعود في الدرجة الأولى الى «مجاهرته بوجود رأي آخر، وإلى حضوره. هناك قواتيون يحبون الاستاذ لأنه لا يُفرق خدماتياً بين شخص وآخر»، استناداً الى مدير مكتبه في عيناتا ربيع رحمة، فيما يرى المسؤول السابق للقوات في المنطقة، «المغضوب» عليه حزبياً، حنا حبشي أن «من البديهي أن يتراجع الحزب. لا يُمكنهم فرض نفسهم كما كان السوري يفعل».
بالنسبة الى مسؤول القوات مسعود رحمة، لا صدى للمزاعم حول تراجع القوات في «الدير»: هي «الأقوى لأن المواقف التي يُطلقها الحكيم تُلبي طموحات الشارع. والمنطقة تتماهى معنا لأنها بطبيعتها مقاومة». ورغم تأكيده «أننا لا نلغي دور أحد»، لا يعترف بالحيثية التمثيلية لرئيس حزب التضامن: «ايه، لا يُمثلني… والـ3% من الأصوات التي حصل عليها ليست حبّاً بشخصه، وانما بالخدمات التي قد يؤمّنها». ويسأل: «كيف سيُحبه الناس وهو قطع عنهم مياه بئر مار يوسف؟ كما عارض تزفيت طريق ايعات ــــ الأرز لأننا لم نزره»، وهي اتهامات ينفيها أنصار النائب رحمة.
«ما من انماء وخدمات من دون التعاون بين البلدية والنائب»، بحسب النائب السابق نادر سكر، وهذا ما جعل اختلاف الميول السياسية بين الطرفين يُترجم صراعاً على الخدمات، ويترك تأثيراً سلبياً على انماء البلدة، إذ إن «التواصل غير جيد، لذلك يضطر نواب القوات الى التوسط من أجلنا» بحسب رئيس البلدية.
يقول سكّر إن «التحول في اتجاه الاحزاب ظاهرة بدأت منذ بداية الحرب الاهلية، لأنها كانت مُنظمة وقادرة على توفير الخدمات». في دير الأحمر «لا وجود لحزب آخر غير القوات. هناك أناس غير مؤيدين لهم، ولكن ذلك لا يعني الرغبة في محاربة الحزب». يخلص سكر، وهو «يُطرطق» بمسبحته: «ميزان القوى لم يتبدلّ كثيراً. أولا في النيابة سيربح من يختاره حزب الله. ثانياً، التقدم على القوات لا يتم الا من خلال بروز حزب آخر».
لا مشكلة مع حزب الله ولا ودّ مع عون!
مرّت سنة تقريبا على جريمة بتدعي التي راح ضحيتها شخصان من آل فخري نتيجة خلاف مع مسلحين من آل جعفر، الا أنها تغيب عن أحاديث الأشخاص الذين التقتهم «الأخبار». نقطة وحيدة يُجمع عليها الجميع في دير الأحمر: الودّ المتبادل مع القرى المحيطة. يؤكد المختار سمير حبشي أن «لا مشكلة مع حزب الله الشريك في الوطن. أنا كلبناني أحترم تضحياته وأقف الى جانبه، ومن يموتون هم من خيرة الشباب». أما بالنسبة الى منسق القوات مسعود رحمة، «فهناك علاقة انسانية جيدة مع الحزب. على الاقل هو مُنسجم مع نفسه».
يحفظ أبناء «الدير» لجيرانهم «مساعدتهم لنا حين هاجمتنا الحركة الوطنية والفلسطينيون»، يقول ميلاد عاقوري. ويضيف المختار حبشي أنّ عناصر الحزب السوري القومي الاجتماعي ساهموا في حماية البلدة في تلك الفترة، «حتى إنّ الجيش السوري لم يؤذنا أمنيا رغم قبض أفراده الرشى». أما النائب السابق نادر سكر، فيجزم بأنه حتى المؤيدون للقوات «لا ينظرون بسلبية الى حزب الله، فلا أحد يُنكر أنه يقوم بعمل استباقي لحماية بلده». هذه الايجابية لا تنعكس على العماد ميشال عون. في شارع دير الأحمر ذكريات كثيرة من حرب الالغاء. يُخبر سمير حبشي إنّ «دير الأحمر تأذت من عون، 105 عسكريين تركوا الجيش دون تعويض»!