تعمّ لبنان اليومَ وغداً احتفالاتُ عيد السيدة، في وقتٍ ستشهد منطقة دير الأحمر مسيراتٍ بالآلاف بعد الأحداث التي شهدتها أخيراً، ومحاولة ترهيب الأهالي وتعرّض عصابات الخطف والإجرام لموفد بطريرك الموارنة مستغلّة تفلّت حبل الأمن وعدم رفع الغطاء السياسي عنها.
لم يشعر مسيحيّو دير الأحمر والجوار يوماً بأنّهم أهلُ ذمّة أو يستَجدون حماية أحد، فهم مسيحيون أصيلون سكنوا تلك المنطقة ليشكلوا خطَّ الدفاع الخلفي عن العرين الماروني الممتد من العاقورة وتنورين وصولاً الى بشري وإهدن.
لا يدخل الخوف في قاموسهم، يستمدّون قوَّتهم من نضالٍ عمره 1500 عام، بدأه تلاميذ مار مارون على ضفاف دير نهر العاصي، وكودره أب القومية اللبنانية البطريرك مار يوحنا مارون، وتابع المسيرة كوكبة من البطاركة والمقدّمين وصولاً الى قيادات المارونية السياسية التي لعبت دوراً بارزاً في تكوين لبنان الكبير، وساهمت في المقاومة، ولعلّ أبرزها الرئيس الشهيد بشير الجميّل صاحب شعار الـ10452 الذي لم يفرّق بين منطقة لبنانية وأخرى.
يؤيّد القسمُ الأكبر من أهالي دير الأحمر والجوار حزب «القوات اللبنانية»، لكنّ المشكلة بين الدير والجوار الشيعي الذي ينتمي بغالبيته الى «حزب الله» ليست سياسيّة أو حتّى مذهبية، بل في عصابات الخطف والسرقة والإجرام التي لا تترك البقاع الشمالي يرتاح، إلّا أنّ أهالي الدير يرفضون أن تصبح منطقتهم هدفاً لتلك العصابات، في غياب قرار سياسي يؤمّن للقوى الأمنية غطاءً للقضاء عليها، وإعادة الأمن والأمان الى ربوع البقاع.
لا يريد أحدٌ استغلال عمل العصابات في السياسة، لكنّ الأهالي يشكون من إرتفاع وتيرة إعتداءاتها خصوصاً في البلدات المسيحية، وكأنهم يحاولون تيئيس المسيحيين ودفعهم الى ترك أرضهم على غرار ما حصل في مدينة بعلبك إبّان الحرب الأهلية، حيث باتت فارغة من مسيحيّيها.
لكنّ إرادة البقاء والصمود أقوى من إرهاب العصابات، والردّ الأقوى سيكون اليوم وغداً عبر قداديس ستعمّ دير الأحمر وبشوات وبقية البلدات المسيحية في البقاع الشمالي كرسالة مفادها «أننا هنا ولن يستطيع أحد إقتلاعنا من أرضنا».
أعطت زيارات البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي الى البقاع الشمالي دفعاً معنوياً للمسيحيين، وأعادتهم الى دائرة الضوء، لكنّ شبكة الأمان الضرورية نسَجَها الأهالي مع عمقهم المسيحي المتمثّل في بشري وتنورين، حيث يؤكد راعي أبرشية دير الأحمر وبعلبك الجديد المطران حنا رحمة لـ«الجمهورية»، «أننا لا نخاف أحداً ونحن موجودون في هذه الأرض منذ أكثر من 150 عاماً، وحضورنا بقوّتنا، والمشارَكة الكثيفة في إحياء عيد السيدة في بشوات وفي سيدة البرج في دير الأحمر، ستُثبت للمشككين أننا شعب يكمل المسيرة ويواجه، فالناس يصلّون ولبنان بلد القديسين ولن يُرهبنا أحد».
يحاول المطران رحمة الحفاظ على التماسك بين أبناء رعيته وزرع الطمأنية، ويقول: «لا يخيفوننا بسلاحهم، فشراء السلاح سهل والتجار ينتظروننا على الباب لشرائه، لكننا لا نريد الحرب المَذهبية كما يحصل في سوريا بل نحن رسل محبة»، مستغرِباً «لماذا نترك أرضنا ونحن الذين قدمنا الشهداء. لسنا متروكين وحدنا ومدانا الحيوي هو في اتجاه تنورين والعاقورة وبشري، وقد بدأنا بحفر نفق مياه من منطقة الدير الى بشري، وإذا إضطر الأمر سنحفر نفقاً وأوتوستراداً بأيدينا يربطنا بتلك المناطق، وهذا مشروع طويل الأمد، لذلك نرفض أن يُهدِّدَنا أحد أو يستفرد بنا، فنحن أقوياء بقوّتنا وبمارونيتنا التي لا تنهزم».
ويؤكد رحمة أنّ «مواجهتنا ليست مع الشيعة أو أيّ قوّة أخرى بل مع العصابات الإجرامية المُغَطاة سياسياً، والتي تتقاسم الغلّة مع بعض السياسيين»، لافتاً الى أنّ «إعتداءاتها تطاول أهل بعلبك لكنهم لا يرفعون الصوت في وجهها، بينما ننادي من جهتنا ونواجه الظلم وندعو الدولة الى تحمّل مسؤولياتها، لعدم جرّ المنطقة الى الفتنة بسبب قلّة خارجة عن القانون».
ويدعو السلطة السياسية الى «منح القرار السياسي للجيش للقضاء على تلك العصابات لأنّ الجيش لا يستطيع المواجهة وحيداً، وعندما نراجع المسؤولين الأمنيين يقولون لنا إنْ لا قرار وإذا تدخّلنا من دون أمر، ستقضي هذه العصابات على عائلاتنا».
وفي حين تتواصل الإتصالات السياسية بين المرجعيات الأمنية والدينية لإحتواء تلك الحوادث والإعتداءات والتي كان آخرها التعرّض للمطران حنا علوان والأب ايلي نصر، يشدّد رحمة على أنّ «99 في المئة من سكان البقاع الشمالي هم من خيرة الأوادم ويتوزّعون على مختلف المذاهب، لكنّ هناك فئة ضالّة لا تتعدّى الواحد في المئة تتبع العصابات، لذلك يجب التوجّه إليها»،
نافياً صحّة ما يُقال عن أنها فقيرة «بل هي من أغنى الأغنياء لأنّها تمتهن الخطف وتجارة المخدّرات والسرقة، وهي أخيراً حصّلت 350 ألف دولار من خطف الشاب مارك الحاج موسى من دون مجهود، لذلك نتوجّه إليها باسم الإنجيل والقرآن والأديان السماوية لكي تتوب وتعود الى رشدها ولا تعكّر العلاقة بين بلدات البقاع الشمالي».
يُحيي جميع المسيحيين في البقاع الشمالي الذين يبلغ عددهم نحو 70 ألف نسمة في القاع ورأس بعلبك وصولاً الى بشوات ودير الأحمر وعيناتا وبقرزلا وشليفا وبقية البلدات، عيد السيدة، وستُقرعُ أجراس الكنائس فرحاً بالعيد، حيث ستبقى هذه الأجراس تدقّ كمنارة لهذا الشرق المظلم، وحيث لا يستطيع أحدٌ هزيمة إرادتهم وتمسّكهم بإيمانهم المسيحي الذي تُجسّد المارونية ركيزتَه الأساس.